العدد 227 - الأحد 20 أبريل 2003م الموافق 17 صفر 1424هـ

آخر العلم الأميركي... أول الجهل

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

الكارثة في الوطن أو الأوطان العربية متحققة منذ زمن بعيد، يرقى إلى أواخر العهد الراشدي يوم صالح الإمام الحسن (ع) معاوية بن أبي سفيان حفظا لدماء المسلمين صلحا مشروطا. وقف بعده معاوية بن أبي سفيان في مسجد الكوفة خطيبا، وقال للناس: «لم أقاتلكم لتصوموا، أو تصلوا، أو تحجوا، فأنا أعلم أنكم تفعلون ذلك، وإنما قالتكم لأتأمر عليكم. ألا وإن كل شرط شرطه عليّ الحسن، تحت قدميّ هاتين». وصار معاوية أميرا للمؤمنين يفرق جماعاتهم، ويختم عهده بتولية يزيد الخلافة، وبعد وفاته جاء وجهاء العرب لتهنئة يزيد، فاحتجب عنهم ثلاثة أيام، وعندما خرج في اليوم الرابع كان أشعث أغبر، وقال للناس: «أيها الناس على رسلكم، ما كنت أعتذر عن جهل، أو أشتغل في طلب علم».

وقتل الحسين ووضع رأسه الشريف في طشت من ذهب، وكان يحتسي الخمرة ناكثا ثغر الحسين بخيزرانة له مرددا شعرا لابن الزبعرى، قاله شماتة بالمسلمين المنكسرين في أُحُد، مستذكرا ثارات بدر، وكان آخر بيت فيه مجاهرة بالردّة، إذ يقول:

لعبت هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

وأرسل يزيد بعدها جيشه بقيادة مسلم بن عقبة، فاجتاح المدينة واستحلها، وقتل خلقا كثيرا من الأنصار والمهاجرين والصحابة وقرّاء القرآن وآل هاشم، حتى قال المؤرخون: «لم يبقَ في المدينة كثير أحدٍ إلا قتل»، وأباح المدينة لجيشه حتى قال المؤرخون: «وولدت في المدينة ألف امرأة لا يُعرف من أولدهنّ». وأخذ مسلم الذي سمّاه المسلمون «مسرفا» البيعة من أهل المدينة على أنهم عبيدٌ ليزيد... وأكمل جيش يزيد طريقه إلى مكة، فضرب الكعبة بالمنجنيق، وهدمها، ثم أحرق أستارها، وكان عبدالملك بن مروان شاهدا، فهاله الأمر فقال: «ليت السماء انطبقت على الأرض، ولَبطن الأرض خيرٌ من ظهرها»، ولكن الكعبة هُدمت وأُحرقت مرة ثانية في عهد عبدالملك نفسه وبأمرٍ منه.

كان فقهاء الشام وعلماؤها حاضرين عندما صرّح يزيد بالكفر، ولم يعترض عليه إلا واحدٌ منهم، حين ذكّره بأن الثغر الذي ينكثه بالخيزران طالما قبّله رسول الله... ولكن الفقهاء تأولوا ليزيد وغفروا له ذنوبه، وسكتوا عن اغتيال عمر بن عبدالعزيز الذي سمّوه الخليفة العادل والراشد، لأنه أخذ بتطبيق عدالته مبتدءا من بيته، وأخذ يسعى إلى توحيد المسلمين، فرفع اللعنة في الصلاة عن علي بن أبي طالب، وأظهر المودة لزين العابدين، والتقى وفودا من الخوارج وتفاهم معهم، فخاف الأمويون من العدالة والوحدة، فقتلوه كما يُجمع المؤرخون على القول بذلك، ولم يحرّك أحدٌ ساكنا، إذ بقيت العشائر وعلماؤها وفقهاؤها يسوّغون الجور والفساد، ويشرعنون الخلافة حتى لأمثال يزيد بن عبدالملك، الذي شغلته المغنية «سلامة» عن الأمة، فاحتالت أمه عليه، واشترت له جارية اسمها «حبّابة» من المدينة بمئة ألف دينار، ولكنه أصبح أكثر شغفا بها من سلامة، حتى أنه أبطأ عن المسلمين في صلاة الفجر بالمسجد الأموي، وحين طرقوا عليه الباب بإلحاح خوفا من فوات الصلاة بشروق الشمس، ما كان منه إلى أن ألبس حبّابة جبّته وعمّته ودفعها إلى المسجد، فصلّت سكرى إمامة للمؤمنين، وكثر الكلام والهمس حول سلوكه، ولاسيما حينما بنى له قصرا في البتراء، وأقام معها فيه، واعتزل الناس، ويوم أن شَرَقَتْ ـ وهي تغني ـ بحبة رمان فماتت، أبى أن يدفنها، وبقي أسبوعا إلى جانب جثتها ينوح ويبكي إلا أن تأسّنت ونتُن ريحها، فدفنت رغما عنه، ولم يمضِ أسبوع حتى مات كمدا عليها، وعند دفنه قال أخوه: «قبّحه الله، لطالما راودني عن نفسي»؟!! وانتهى الأمر بالوليد بن يزيد الذي مزّق القرآن أن أرسل مهندسا مجوسيا إلى مكة ليبني له غرفة فوق ظهر الكعبة، يشرب فيها الخمرة، ويشرف على طواف الحجاج، وشوهد المهندس يذرع ظهر الكعبة ويأخذ قياساتها، فضاق صدر الناس، إلى أن أتى الناعي فجرا بوفاة الوليد، فتنفّس أهل مكة الصعداء ـ كما يقول الأصمعي ـ الذي يقول عن الحال وقتها: «دخلتُ مكة والمدينة ولم أجد فيهما إلا المغنيات ورجلا يضع الأخبار والطرف»، لكن ذلك يتأوله علماؤنا ويغفرونه ويعتبرونه تأويلا خاطئا للشريعة ليس إلا... إذا، فليزيد ويزيد والوليد، لكلٍ منهم أجرٌ واحد، لأنهم تأوّلوا فأخطأوا، ولم يتعرض علماؤنا أبدا لتبرير العهد الأموي على طريقة المؤرخين ودراسي الحضارات بالإنجازات الحضارية التي يمكن الاختلاف عليها دون تجاهلها... أمتنا وعلماؤنا سوّغوا للأمويين مخالفاتهم الشريعة وانحرافهم عن التوحيد بتجزئة الأمة وتخريب الوحدة.

هنا تأسست الكارثة وكانت لها تجلياتها السلجوقية والبويهية والإخشيدية والمملوكية والأيوبية والصفوية والعثمانية والمغولية، كما كانت لها تجلياتها الحديثة منذ سقوط الدولة العثمانية والتي تمثلت في الأنظمة التي أنشأها المستعمرون الأوروبيون، وورثها وطورها الأميركيون من أنظمة الاستبداد التقليدي المكيّف إسلاميا، إلى أنظمة الاستبداد العلماني المبرر إسلاميا وقوميا وتقدميا. من يمن الإمامة إلى يمن الجمهورية، ومن عراق الملكية إلى عراق الألوهة والواحدية والأحدية التي تُلغي لتحيا وتبقى ولو كان الملغيّ هو الأمة كلها أو الوطن أو الشعب أو الحزب، لكن كل ذلك قام ويقوم على أكتاف العشائر والقبائل التي خذلت عليا وخانت الحسن واستدرجت الحسين لتتركه على مقتضى المال القليل الحقير وحيدا ونحن معه على صعيد كربلاء محروما من شربة ماء، على عكس ما تدّعيه القبائل من حرصها على القيم، وخصوصا فيما يعود إلى الأطفال والنساء.

لقد كانت هذه العشائر جاهزة للعصرنة على مقتضى المصلحة غير المشروعة أكثر الأحيان، وعلى مقتضى العصبية، فأنشأت أحزابها الحديثة والحزب الذي لم تُنشئه عاد إليها ليقوم على عصبيتها ومطامعها وقدرتها على الارتكاب السهل ونقل الولاء والبنادق من كتفٍ إلى كتف ومن قلب إلى قلب ومن شخص إلى شخص ومن حزب إلى حزب ومن صديق إلى عدو بسرعة خارقة، وهكذا أصبحت قبائلنا أحزابا، وأحزابنا قبائل، ولم يعدم العلماء والمثقفون عموما مسوغا في تبرير كل ما فعلت وارتكبت، وبلغت الكارثة أوج تجلياتها العام 1948 لتهدأ قليلا أكثر من عقد من الزمان، وتتمادى في ظهورها العام 1967 التي فرطت عقدنا وأتاحت لشظايانا أن تعبّر عن مكنونها التخلّفي، واختزانها للضعف العشائري بشكل فاضح، ومن الحرب على إيران إلى احتلال الكويت إلى الحرب في لبنان إلى الحرب الأردنية ـ الفلسطينية في الأردن إلى الحروب في اليمنين وداخلهما إلى حرب الجزائر البالغة الفوضى والجريمة المفتوحة على الأسوأ إلى حرب الصحراء بين المغرب والجزائر، وليبيا وتشاد والصومال والسودان، إلى الدم الفلسطيني المراق يوميا والمهمل دائما إلا من هتافات كرغوة الصابون.

تستمر قبائلنا مخلوطة بالدين أو المذهب (على طريقة الأفغان)، تصنع مستقبلنا على أساس استهلاك حاضرنا، واستحضار الجثث الجائعة من الماضي، وتجاوز كل جهالات هذا الماضي وإشكالات الحاضر ونداءات المستقبل وأسئلتها الصعبة.

هذه المقدمة النوّاحة الطويلة أوردتها مقدمة لكلام قليل، أقوله على حذر شديد من التعميم والإطلاق، وعلى خوف من الإطلاقات والتعميمات التي عوّدنا الثوريون العرب عليها من زمن بعيد، لتمرّ الأيام وراء الأيام، فينكشف أن تقييماتنا الثورية على رغم أن لها أصولا، إلا أن التعميم حوّلها إلى حقول ألغام ملغومة بعنوان النوم والنعاس والكذب والمبالغة وغاز الأعصاب والتخلف والفتنة والكسل والخيانة وخيانة الخيانة.

هل يصح القول لقول مطلق مثلا إن الشيعة يقاتلون في العراق؟ ثم ما معنى أن تكون العشائر فرضا هي التي تتولى حماية العراق؟ نطاقه أولا وشعبه ثانيا، باعتبار أن الشعب دائما كان يُقتل من أجل النظام، وأن الشعب هو المقتول والمسجون والمجروح والمطرود والمطارد دائما، والنظام هو الباقي لا شريك له لا من داخل الحزب والعائلة ولا من خارجهما.

يجب التدقيق وإن كنا نقول: «عافية لمن يقاوم الأميركان أيا كان»، يجب التدقيق حتى لا نقع في كارثة الكوارث، وكارثة الكوارث هي ألا ينتصر النظام العراقي أو اللانظام العراقي على اللانظام الأميركي، الذي يريد أن يعولم قيمه المتخلفة ورعونته وساديته وغروره وكفره وجريمته، يريد أن يحبس الدنيا كلها في بيضة دجاجة أميركية، ليكسرها ساعة ما يشاء، أو يحضنها فلا تفقس إلا عن أتباع مسلوبي العقل والإرادة والرؤية والشوق إلى الحياة والحيوية.

الكارثة أن ينتصر النظام العراقي، فيعاقب الشعب العراقي مرة ثانية كما عاقب الذين اقترحوا ثورة العشرين، بالقتل والسجن والنفي واحتكار السلطة ومنافعها من النفط إلى السياسة إلى الإدارة، ثم يعمم نموذجه على بلاد العرب والمسلمين، أي انتصار القبيلة بالدين على الدين والمتدينين على العرب والعروبيين.

والكارثة أن ينتصر النظام ـ اللانظام الأميركي ـ آخذا دور يزيد والعشائر والقبائل والأحزاب، أي منقلبة إليه كعادتها، وهنا تصبح الكارثة مزدوجة، أي أننا نكون قد بيضنا وجه المهزوم الذي هزمنا ووجه الأميركي الذي استثمر هزائمنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما الأقرب إلى القلب فهو أن نخون الأميركيين هذه المرة إذا انتصرنا!!! ولكن من تبقى من أهل النجف حتى يقاتلوا، لقد طرد كل مَن مِن شأنه أن يقرأ ويفكر من كربلاء والنجف والبصرة والحلة والناصرية والسماوة والشامية والعمارة... لأن الشباب العارفين الفاعلين بين ثلاثة: فإما سجينٌ في الغياهب والمطامير، وإما قتيلٌ في أعماق التراب، وإما طريدٌ في المهاجر... والأربعة ملايين عراقي في المهاجر ربعهم على الأقل كوادر وقيادات فكرية ونظامية، وفي السجون والمقابر أضعاف هذه النسبة، فمن الذي يقاتل، والنجف أكثر سكانها قطّاع الطرق وأهل البر الذين أتى بهم النظام ليُؤجر النجف عليهم اجتماعيا واقتصاديا وعمرانيا وسكنيا وأمنيا، بدل أهلها الأصليين، وهؤلاء قد يقاتل بعضهم ضد الأميركيين حتى إذا ما بدا أن المعركة صعبة انسحب، فإذا مالت الكفة بوضوح لصالح الأميركي قاتل معه ضد من يقاتلون، وهذا له شواهد كثيرة في التاريخ الحديث... أما البعثيون فقليل منهم يقاتلون وبشراسة، لأنهم مرتكبون لجرائم، إذ قتلوا ونهبوا واستباحوا حرمات، فإذا ما بقوا أحياء فسيتفرغون للانتقام، واحتمال النصر على الأميركي يعطيهم فرصة ذهبية لمستقبلهم. إن الانتهازيين منهم كالعشائر، وكذلك الذين التحقوا بالحزب سرعان ما يبدلون مواقفهم ومواقعهم طبقا للمستجدات على أرض المعركة، وأما الحرس الجمهوري فهو في غالبيته شبيهٌ بالانكشارية، نشأة وبناء ذهنيا ومصلحيا وعقائديا وجسديا، جسده النظام الذي يتجسد ويجسّد العشيرة، وهؤلاء كالانكشارية الذين كانوا يقاتلون العدو بشراسة بصرف النظر عن كونه معتديا أو معتدى عليه. ولكنهم لا يجتمعون إلا على أساس قدور الطبخ والطعام، يُكافأونها عندما يفيضون إلى الخليفة أو القائد الميداني، ويفعلون ما يشاءون، فيضطر السلطان سليم إلى إيقاف الزحف على إيران في تبريز بعد معركة (جالديران)، لأن الانكشارية قرروا التوقف، وعندما عاد بهم إلى اسطنبول فتك بهم فتكا ذريعا، فحقدوا وانتظروا الظروف، ولم يقصروا في القتال تحت راية السلطان والعصيان عليه، تحت الراية ذاتها إلى أن انتقم منهم السلطان مراد انتقامة النسر الفتاك.

إن المطلعين منا يتذكرون ستالين، المثال الأعلى لحكامنا، عندما استعان بالسجناء السياسيين في معاركه ضد الاحتلال النازي، ثم أعاد من بقي منهم حيا بعد التحرير إلى سجونهم، ومن بينهم أحد الجنرالات الذي أعيد إلى سجنه في 13 مايو/آيار، أي بعد يومين من تحقيق الانتصار فقط!!!

إن الذين أعدمهم الرئيس صدام حسين من قيادات الحزب على مدى عهده، أواخر الستينات هم الذين بنوا الحزب وناضلوا في سبيله ـ وليتهم لم يفعلوا ذلك ـ وهم الذين ضربوا وسجنوا وشرّدوا، ومن لم يمت منهم على يد نوري السعيد وقاسم والعارفين ـ وهم الأكثرية ـ ماتوا على يد الرفيق القائد، ومن يستطيع أن يتحدث عن حزب البعث في العراق، ويتجاهل فؤاد الركابي وأياد سعيد ثابت، وصلاح عمر العلي، وأحمد عبدالستار الجواري، وحسين الصافي، وعدنان الحمداني، وحسن العامري، وعبدالخالق السامرائي، ومحمد عايش، ومرتضى الحديثي، ومحمد محجوب، وعبدالكريم الشيخلي، وفليح جاسم الحسن، وعزت مصطفى، وعبدالكريم مصطفى نصرت، ووو... إلخ. من قتلهم؟ وهل قتلوا جزاء لهم على تقصيرهم وعدم نضالهم؟ وضد من كانوا يناضلون؟

دفعا للالتباس... أنا مع الحكمة والدقة والمبدئية الإيرانية في تعاطيها مع الوضع الحالي في العراق، فمن الطبيعي ألا أوافق على نماذج الابتذال العراقي في التعامل مع الأميركان... إن كل المآسي التي وقعت على رؤوسنا لا تبرر هذه الاندفاعة المشبوهة مرة والمفضوحة مرة والمثيرة مرة والمتسرعة مرة نحو سلطة فارغة سخيفة مهينة يقدمها الأميركي للمعارض العراقي على طبق من تنك في مائدة قوامها السم والخبز الفاسد المليئ بالزؤان والعطن، ومهلا أيها السادة... وليكن لكم من إعادة النظر بعض المعارضة على إيقاع الأداء الإيراني، عبرة حتى لا يتبخر ماضي بعضكم المشرف في تاريخ العراق والنجف ولا تذهب دماء شهدائكم هدرا، وأختم بجزء في مطالعة الدكتور علي الوردي لحركة العشائر في ثورة العشرين مما لا يغني على قراءة التفاصيل المذهلة لهذه الحركة في كتابه «لحمات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث».

يقول الوردي: «تعد الثورة في منطقة الفرات الأوسط بمثابة العمود الفقري لثورة العشرين كلها، ففي هذه المنطقة حصلت الانتصارات الكبرى للثورة. كما أن هذه المنطقة هي التي تحملت العبء الأكبر من التضحيات في الأنفس والأموال، وصمدت للقتال فترة طويلة نسبيا، أما المناطق الأخرى، فلم تكن ثورتها إلا صدى لثورة الفرات الأوسط، وقد تمكن الانجليز من القضاء عليها بسهولة». و«لولا وقوف بعض الشيوخ الكبار إلى جانبهم (أي الانجليز) في ساعة المحنة، لربما صار مصيرهم في العراق كمصيرهم في السودان أثناء ثورة المهدي»، المقصود بالشيوخ شيوخ العشائر «إن الانتصارات التي نالها الثوار في الفرات الأوسط وصلت أخبارها إلى مختلف أنحاء العراق بشكل مضخم ومبالغ فيه، فصارت الاشاعات تنتشر بين الناس عن جسامة الغنائم التي فاز بها الثوار، وألوف الأسرى الذين وقعوا في أيديهم وأمست هذه الإشاعات حديث المجالس والمقاهي والدواوين والمضايف في كل مكان، وقد صاحبت هذه الإشاعات إشاعات أخرى أن جيوشا جرارة قادمة إلى العراق لنجدة الثوار وطرد الإنجليز من العراق وهي مؤلفة من قوات تركية بقيادة مصطفى كمال وعربية بقيادة الشريف عبدالله وبلشفية بقيادة الجنرال فلانوف» «كانت بعض العشائر عند انضمامها إلى الثورة تبتغي الفوز بالغنائم والفرهود أكثر من المطالبة بالحرية والاستقلال... ومن الممكن القول إن الإشاعات التي راجت عن وفرة الغنائم في الفرات الأوسط شجعت عشائر المناطق الأخرى على الاقتداء بهم في الثورة لكي تفوز بمثل ما فازوا به من الغنائم. ولهذا رأينا بعض العشائر تعمد إلى نهب البلدة التي تدخلها في أثناء الثورة. وقد حصل هذا بوجه خاص في منطقة ديالى»... ويقول الوردي: «كان بعض رؤساء العشائر الذين التحقوا بالثورة انما فعلوا ذلك تحت تأثير ضغط الرأي العام إذ هم كانوا يخشون أن تلصق بهم تهمة الكفر... ولكنهم ما كادوا يلمحون في الثورة بوادر الضعف حتى بدأوا يبدلون مواقفهم ويدعون إلى إلقاء السلاح قبل فوات الأوان». وقالوا - رؤساء العشائر - بعد عرض ويلسون الصلح مع الثوار: «إن الرافضين للصلح المتكئين على وسائدهم في النجف لا يجوز لهم أن يبتوا في أمور الذين يعانون ضراوة القتال والخسائر الفادحة». ويفصل الوردي تفاصيل يدركك منها الذهول والخوف على المستقبل. إذ كل الذين حكموا العراق حرصوا على إبقاء العشائر والقبائل على حالها من الفوضى والطمع والغدر والقسوة ليستعينوا بها على تحقيق أغراضهم وثبيت سلطانهم، عارفين بأنه إذا ما مال الميزان لصالح أعدائهم أو خصومهم فإن هذه العشائر ستميل وتنتقم منهم وينتقم بعضها من بعض ويأكل وينهب بعضها بعضا لتضعف أكثر وتطيع أكثر وتطمع أكثر وتنهب أكثر... تماما كما أن الذين استعمروا العراق مباشرة أو من طرق غير مباشرة كحال أميركا في العهود المتأخرة، حرصوا على أن يبقى النظام قبائليا متخلفا نهابا مفرطا طماعا وعلى علاقة نفعية انتهازية بكل شيء من الدين إلى الوطنية إلى القومية، ليستعينوا به على استغلال العراق والعرب والمسلمين أجمعين، وهم يعلمون أنه قد ينقلب عليهم في أية لحظة، إذا ما تعارضت مصالحه مع مصالحهم التي هي مجتمعة على النقيض من مصالح الشعب والوطن والأمة والمستقبل.

إذا فعليتان سياسيتان مختلفتان ظاهرا وشكلا ومتفقتان مضمونا وواقعا، تتقاتلان على العراق، احداهما متخلفة وبدائية تماما، والثانية من رعاة البقر متخلفة وبدائية ولكنها تزين تخلفها بالانترنت والكمبيوتر... وتنتخب بالانتخاب الحر رئيسا معتوها كجورج بوش لتدل على تخلفها... وتضع لنا حكاما متخلفين بإرادتها تفرضهم علينا فرضا وتختلف معهم، فندفع نحن ثمن الاختلاف بين البداوات القديمة والبداوات المعاصرة بين بداوات الهوسة وبداوات الروك أندرول... بين بداوة كبداوة يزيد بن معاوية لا تعتذر عن جهل ولا تسعى في طلب علم وبداوة تسعى إلى العلم من أجل تعزيز الجهل وتعميقه وتوسيعه والعيش على مردوده...

أليس آخر العلم الأميركي هو أول الجهل؟

أليس آخر الجهل العربي المعاصر أشد وطأة من الجاهلية الأولى؟ وتكتمل الكارثة على تقدير هزيمتنا في وجه أميركا، وعلى تقدير انتصارنا! ألا تبقى الهزيمة مضمونا وعدا بكارثة أخرى؟ الله يستر

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 227 - الأحد 20 أبريل 2003م الموافق 17 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً