كان من نتائج الحرب الأميركية - البريطانية على العراق، إحداث تغيير شامل للوحة العلاقات السياسية في العراق، وجوهر هذه التغييرات يتمثل في الاطاحة بالخريطة السياسية القائمة ووضع العراق على خريطة سياسية تتشكل معالمها الجديدة هذه الأيام.
ففي اللوحة السياسية التي كانت قائمة قبل الحرب، كان حزب البعث العراقي يغطي الجزء الأكبر من اللوحة، اذ هو حزب النظام الحاكم، وله القوة التنظيمية الأكبر والعلنية في العراق، يقابله في المعارضة تشكيل واسع من الاحزاب والجماعات السياسية القومية والدينية واليسارية والليبرالية المحظورة، لعل من أهمها تشكيلان، اولهما تنظيمات كردية بينها الاتحاد الوطني الديمقراطي، وحزب الاتحاد الديمقراطي، والثاني تنظيمات اسلامية ابرزها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة.
ولعبت التدخلات الخارجية وخصوصا الأميركية بعد حرب الخليج الثانية دورها في إحداث تبدلات ملموسة على خريطة المعارضة، كان من أهم نتائجها حضور علني لبعض جماعات وتنظيمات المعارضة، وخصوصا الكردية في منطقة شمال العراق، تبعها ولادة المؤتمر الوطني العراقي، وهو ائتلاف يضم قوى وشخصيات معارضة ذات توافق قريب من السياسة الأميركية. ثم جاءت الحرب الأميركية - البريطانية حاملة معها المزيد من التأثيرات على الخريطة السياسية، اذ تم اسقاط حزب البعث من السلطة، واصدار قرار بحل تنظيم البعث، وجرى افساح المجال لحضور معظم الجماعات والأحزاب السياسية في عموم الاراضي العراقية بعد ان كان محصورا في منطقة الشمال، وهو ما يشكل الملمح الأهم في واقع العراق السياسي الراهن.
غير ان التحول في واقع الخريطة السياسية، امر محكوم بالتصورات الأميركية للواقع السياسي في العراق الذي يقوم على محاربة الأحزاب العقائدية، وإفساح المجال امام نمو وتطور احزاب وجماعات براغماتية، وهو ما يفسر الحرب الأميركية على تنظيم البعث، وليس على قيادته فقط، كما يفسر رفض عودة مئات من الشيوعيين العراقيين الذين طالما كانوا في اطار المعارضة للنظام السابق، ويفسر الحذر الذي تتعامل به الادارة الأميركية مع الجماعات الإسلامية ومنها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة.
والتصورات الأميركية ليست وحدها التي تحدد واقع ومحتوى العلاقات السياسية في العراق، بل بالاضافة اليها، هناك عامل شديد الأهمية، وهو التناقضات الجديدة بين الاحزاب والجماعات السياسية، التي حلت محل التناقضات القديمة القائمة بين نظام البعث السابق والمعارضة. والأساس في التناقضات الجديدة، سعي كل واحد من الاحزاب والجماعات الى تحقيق مكاسب سياسية، تدعم توجهاته الفكرية والسياسية وعلاقاته الاقليمية والدولية، وقد بدا الامر شديد الوضوح في الاجتماعات الأولى التي عقدتها جماعات المعارضة في الناصرية وخلال الانشطة التي قامت بها تلك الجماعات والمواقف التي اتخذتها حيال القضايا المطروحة على الساحة العراقية سواء ما تعلق منها بالأوضاع الداخلية، أو بالمحيط الاقليمي.
ان بين نماذج افتراق الجماعات والاحزاب السياسية العراقية، الموقف من الاحتلال الأميركي - البريطاني، والمستقبل الذي يرسمه للعراق، اذ توافق بعض القوى على دور اميركي، فيما ترى قوى أخرى، ان الدور انتهى مع اسقاط نظام البعث، وينبغي ان يترك للعراقيين أمر العراق ومستقبله. وهناك افتراق آخر بين الجماعات السياسية، يتعلق بطبيعة النظام الذي يجب اقامته، فهناك من ينادي باقامة دولة ذات نظام اسلامي، مقابل من يتبنى اقامة نظام علماني يفصل الدين عن الدولة، فيما تبنى اجتماع لجماعات معارضة اقامة نظام فيدرالي ديمقراطي يستند الى سيادة القانون.
ولا يقتصر افتراق الجماعات والاحزاب السياسية في العراق على الموقف من الحضور والدور الأميركي في العراق وموضوعات السياسة الداخلية، بل يمتد الى الموقف من دول الجوار الاقليمي، اذ تختلف قوى المعارضة في موقفها وعلاقاتها مع الدول المجاورة، التي يصنف بعضها في اطار الدول الصديقة والداعمة، بينما تصنفها قوى أخرى في اطار الدول الضد، وكلا الموقفين يستند الى ارث ووقائع من العلاقات التي حكمت هذه القوى بالدول المجاورة للعراق وخصوصا ايران وسورية وتركيا.
ان الاختصار الشديد لواقع العلاقات السياسية في عراق اليوم، انه واقع مشتت وشديد التناقض وهو محكوم بالماضي في بنياته وعلاقاته، اضافة الى افتقاره الى القواسم المشتركة، التي تقرب جماعاته الى بعضها بعضا لصوغ واقع افضل لعراق طحنته الصراعات الداخلية السياسية قبل ان تطحنه الحروب وخصوصا الحرب الأميركية - البريطانية الأخيرة
العدد 226 - السبت 19 أبريل 2003م الموافق 16 صفر 1424هـ