ذهول ومرارة في الحلوق وشعور عام بالاحباط، هكذا فعل سقوط بغداد بالتونسيين، فبعد ان أنعشتهم اخبار الايام الاولى للصمود، وراودهم الامل في ان يدرك الاميركيون انهم اخطأوا عندما فكروا في اجتياح العراق، وتسمروا قرابة عشرين يوما امام الفضائيات العربية لمتابعة الحدث لحظة بلحظة، صفعتهم الانباء بدخول المارينز إلى قلب العاصمة العراقية بسهولة مفزعة، وهزمتهم في الاعماق صور جموع من العراقيين وهم يحرقون صور صدام ويسقطون تماثيله ويرحبون بالغزاة. حينها توقف الفكر عن العمل، واضطربت المشاعر بشكل درامي، وخرج التونسيون من منازلهم يسألون: «أين الصحّاف»؟ اين رئيسه ورفاقه؟ اين ذهب الجيش والحرس الجمهوري «وفدائيو صدام»؟ فجأة تحولت الملحمة والمأساة إلى نكتة سوداء.
النخبة المذهولة
كان كثير من الأحزاب والجمعيات تنادت لتنظيم يوم تضامني مع العراق وتبادل الرأي عن تطوير اشكال الدعم والتضامن بتاريخ 9 ابريل/نيسان الجاري. لكن يومها لم يأت إلى مقر «الحزب الديمقراطي التقدمي» سوى نفر قليل من شخصيات المجتمع المدني، جاءت وهي مصعوقة بما بدأت تنقله القنوات التلفزيونية من انقلاب مذهل في المشهد العسكري وردود الفعل الشعبية العراقية. توقع الجميع كل شيء إلا مثل هذه النهاية البائسة لنظام كان ينظر اليه في اعتباره الاقوى في منطقة الشرق الاوسط.
النخبة التونسية ليست بعثية الهوى. وعلى رغم ان فعاليات مؤثرة داخل الاوساط النقابية والاعلامية والسياسية نجحت إلى حد ما منذ حرب الخليج الثانية في تشكيل رأي عام لا يميز بوضوح بين النظام والشعب، فإن المنظومة السياسية «والايديولوجية الصدامية» بقيت غير قابلة للتسويق داخل الفضاءات التونسية. فمنذ اواسط السبعينات أخذت تتشكل في تونس ثقافة ديمقراطية وحقوقية ذات مضامين ليبرالية. وهي ثقافة تسربت، بنسب متفاوتة إلى كل التنظيمات السياسية بما في ذلك ذات التوجهات القومية او الاسلامية. لكن لم يمنع ذلك ان يتعاطف التونسيون عموما مع العراق في حرب غير شرعية قررها الاميركان لأهداف استعمارية. وعلى رغم حذر المثقفين تجاه أية مبالغة قد تصدر عن السلطات العراقية فإن كل المؤشرات كانت تدل على ان الغزاة سينتصرون في النهاية بعد ان يتكبدوا خسائر باهظة ويتورطوا في حرب طويلة نسبيا.
الآن تهاوت النخبة مع تهاوي العراق ونظامه، ما جعل احدى الصحف تتحدث عن عودة الاجواء النفسية لهزيمة 67 التي تميزت بالاحباط والاحساس الجماعي بالضياع، وفي هذه الاجواء تعددت التفسيرات والتأويلات لما حصل. حمل البعض بقوة على صدام حسين، وحمّلوا الديكتاتورية مسئولية هذه الهزيمة القاسية. من ذلك على سبيل المثال البيان الذي أصدره (حزب المؤتمر من اجل الجمهورية)، الذي يتزعمه منصف المرزوقي، أكد فيه ان الاستبداد مقدمة للاستعمار. البعض الآخر يرفض ما يعتبره منطق جلد الذات، ويعتبر الهجوم على النظام العراقي حاليا وقوعا في الفخ الاميركي، ويطالب بتوحيد الجهود من اجل اخراج الغزاة من العراق، ويرى ضرورة الربط بين المسألة الديمقراطية ومقاومة الاستعمار. وفي هذا السياق تتوقع شخصيات واحزاب عديدة احتمال اندلاع معركة تحرير عراقية خلال الفترة المقبلة.
لكن الواضح انه لا أحد قادر الآن على ان يعيد تعبئة الرأي الوطني من جديد بشأن موضوع العراق، اذ اخذت معظم الفعاليات تتهيأ لتعطي الاولوية من جديد للمسائل والمشاغل المحلية.
الصحافة في حال تسلل
تفاعل الاعلام التونسي مع الحرب منذ لحظة اندلاعها، لكن هل كان في مستوى الحدث؟ سؤال بدأ يطرحه الكثيرون. فبالنسبة إلى التلفزيون لوحظ التغيير الذي ادخل من الناحية الشكلية على النشرة الاخبارية، اذ اعطيت الاولوية للحدث على الاولويات المحلية، وتم تكثيف عدد المراسلين في العواصم العربية والغربية، وتعددت البرامج الحوارية لتحليل آخر التطورات، لكن استمرت النزعة الانتقائية للضيوف، بحسب اعتقاد اصحاب الرأي المخالف ما حال دون انفتاح اعلامي على الجمهور والنخبة. والاكيد ان الاعلام الرسمي لم يتمكن، على رغم (الروتوش)، من منافسة الفضائيات العربية، واضطر إلى الاستناد إلى مصادرها على رغم التحفظات الرسمية المعروفة على قناة «الجزيرة» مثلا.
اما بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة، فقد اندفعت بشكل قوي وراء الاعلام العراقي، وركزت بالخصوص على ما كان يردده الصحاف في مؤتمراته الصحافية، وما كان يتوقعه عدد من المعلقين والخبراء وفي مقدمتهم الجنرال سعد الدين الشاذلي، والصحافي عبدالباري عطوان. كما حمّلت الصحف المحلية الصمود الذي أبدته المقاومة العراقية اكثر مما يحتمل، ولم تضع قراءها في جو هزيمة محتملة، بل هاجمت بقوة كل من حاول ان ينظر إلى المعركة من زاوية مختلفة، وتمّ اتهامهم بالمتأمركين ومروجي الاحباط. ولكن من باب الموضوعية لم يكن بامكان الصحف التونسية ان تتكهن بما عجزت عن توقعه حتى المخابرات الاميركية. كما بدا من الطبيعي ان تتخذ هذه الصحف موقفا مساندا للعراق ضد عدوان وحرب ظالمة وغير شرعية. لكن خطأها الاساسي تمثل في تغليب دور التعبئة على الوظيفة المهنية، التي كانت تقتضي نقد المعلومات الواردة من قبل طرفي النزاع، وعدم ترك القارئ متعلقا بأوهام وانتظارات مستحيلة، فكررت بذلك خطأ لازم الاعلام العربي في كل الحروب التي تم خوضها منذ الاربعينات لهذا امتلأت الصفحات الأولى لكثير من الصحف بمثل هذه (المانشيتات): «ملحمة في بغداد والمحرقة تبدأ في ابتلاع الغزاة»، «مئات الاميركان بدأوا بالانتحار على اسوار بغداد»، «بغداد: الحرس الجمهوري سحق الغزاة وطردهم من المطار»، «العراق شامخ صامد وببسالة يقاوم»، «صدام مستحيل على الاميركان مثل بن لادن». لهذا وجدت الصحف نفسها بعد تلك العناوين النارية المبالغة في التفاؤل، تواجه مأزقا منهجيا في علاقتها بالرأي العام، وهو ما جعل احداها تختار العنوان الرئيسي بعد سقوط بغداد: «لماذا هرب صدام وتركنا نتجرع الأوهام؟» ولم يكن امام صحف اخرى إلا الاستنجاد بنظرية المؤامرة لتفسير الكارثة، فتحدثت عن احتمالين لا ثالث لهما اما وجود صفقة وإما الخيانة؟ النتيجة النهائية ان الصحافة التونسية أخفقت مرة اخرى في مواكبة حرب عربية اخرى بطريقة مهينة، وخلطت بين الولاء العاطفي والمسئولية الصحافية.
وقع الصدمة والجهل
أما عموم التونسيين، فقد عاش الكثير منهم أزمات نفسية حادة، بعد ان تفاعلوا مع المواجهة العسكرية، وصدقوا ما قاله محمد سعيد الصحاف في شطحاته اللغوية، وظنوا أن صدام حسين شخصية اسطورية لا تنهزم بسهولة. كثير منهم لم ينم الليل الا قليلا حتى اضطر بعضهم إلى زيارة العيادات النفسية، جامدون امام الفضائيات العربية، يفرحون لأخبار القتلى الاميركيين، ويتألمون للضحايا من المدنيين العراقيين، وترتفع لديهم يوما بعد يوم درجات كراهيتهم للولايات المتحدة، فجأة جاءهم الخبر اليقين، وذهلوا وهم يرون عراقيين يرحبون بالغزاة، ويلعنون صدام حسين، ويعتبرون سقوط عاصمتهم يوم فرح وبشرى. عند ذلك توقفت عقول التونسيين عن التفكير، واخذوا يسألون اهل الرأي منهم، ماذا جرى؟ واين ذهب صدام وجيشه ومليشياته؟ ومن هم الاكراد والتركمان؟.
اكتشف الكثير من التونسيين جهلهم العميق بالمجتمع العراقي، وعدم علمهم بالكيفية التي كان صدام يحكم بها بلدا متنوعا وكبيرا مثل العراق. ثم انهالت صور النهب امام اعين المشاهدين التونسيين بشكل اشبه بالسكاكين الغائرة في الجسم، فزادت من سرعة الدوامة التي عاشوها، ما جعل بعضهم يغلق التلفزيون ويلعن الزمن العربي، ويلازم فراش المرض. اما آخرون تسكنهم ثقافة البطل الاسطوري والزعيم المفارق لقوانين الطبيعة والسياسة، فلا يزالون ينتظرون احتمال ظهور صدام من تحت أنفاق دجلة والفرات، ليسحق الجميع ويحرر العراق من المستعمرين الجدد.
لا شك في ان ما حدث في تونس يمكن تعميمه على الكثير من البلاد العربية، مع اختلاف نسبي في الحجم والادوار والمشاهد. والسؤال: ماذا حصل؟ ما الذي يمكن ان تحدثه هذه الهزيمة الجديدة في الوعي العربي سواء في فهمه لعوائقه الذاتية، او في تعامله مع القضايا القومية والسياسات الدولية؟
العدد 226 - السبت 19 أبريل 2003م الموافق 16 صفر 1424هـ