إنها ملحمة الصمود والمقاومة في هذه الأمة، الملحمة التي ستستمر إلى قيام الساعة. فهذه الأمة قد تضعف، ولكنها لن تموت. هذا ما وعدنا ربنا، ولن يخلف الله وعده. إنها ملحمة تتجلى فيها الحركة (حماس)، ويتجلى فيها المحرك (أحمد ياسين) في عرس جهادي عظيم، يعكس عظمة الإسلام ذاته. لقد أثبت الشيخ المجاهد أحمد ياسين حفظه الله أن الكرسي المتحرك لم يعد رمزا للعجز والقعود، فقد أصبح هذا الرجل - بالإسلام - مصدرا هائلا للطاقة والحركة، مصدرا يعجز عن حمله الكثير ممن آتاهم الله كل أسباب الحركة المادية... وأصبحت حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين مصدر إلهام وتذكير لهذه الأمة، تذكير بأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة.
ولد الأستاذ الشيخ أحمد ياسين العام 1938 في قرية (الجورة) جنوبي مدينة غزة. توفي والده وهو صغير لم يتجاوز عمره الثلاثة أعوام، وكان ترتيبه الثالث بين إخوانه الذكور الأربعة. هاجرت الأسرة بعد النكبة العام 1948 واستقرت في (مخيم الشاطئ) على ساحل بحر مدينة غزة.
وقد ظل في هذا المخيم قرابة ربع قرن من الزمان ، ترعرع فيه، وتعلم، وتزوج ورزقه الله بعدد من الأولاد والبنات. ولما ضاق البيت بالأسرة في المخيم عن استيعاب الشيخ وأسرته وضيوفه ومريديه، انتقل الشيخ بأسرته إلى حارة جنوبي مدينة غزة تسمى (جورة الشمس)، إذ بنى له المتطوعون من تلامذته ومريديه بيتا متواضعا يعيش فيه مع أسرته.
كان الشيخ أحمد قد أنهى الصف الثالث الابتدائي مع أبناء قريته حينما هاجر إلى مخيم الشاطئ، وهناك التحق بمدرسة الإمام الشافعي، وهي المدرسة الرئيسية في مدينة غزة في ذلك الحين، وأنهى تعليمه الابتدائي حوالي العام 1952، فانتقل إلى مدرسة (الرمال) الإعدادية للاجئين بغزة أيضا إذ أنهى تعليمه الإعدادي العام 1955. ثم انتقل إلى مدرسة (فلسطين) الثانوية ، إذ أكمل تعليمه الثانوي العام 1958. لم يستطع الشيخ إتمام تعليمه الجامعي لعدة أسباب ، منها أن أمنية غالبية الأسر الفلسطينية في القطاع كانت أن ينهي أبناؤها الثانوية العامة ليعملوا مدرسين أو موظفين ليسهموا في إعالة أسرهم، بالإضافة إلى سبب آخر هو الظروف الصحية السيئة وغير العادية للشيخ.
وقد استغنى عن التعليم الجامعي بالثقافة الخاصة التي كرس نفسه لتلقينها من دراساته الخاصة. ومن عجب أنها كانت في جميع النواحي الدينية واللغوية والأدبية والسياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية. وبهذه الثقافة تفوق الشيخ على خطباء القطاع ، واستقطب الجمهور بمختلف شرائحه، إذ أصبح مسموع الكلمة وموضع الاحترام في الوطن المحتل كله. ولم يكن ذلك بسبب ثقافته واطلاعه فقط، ولكن أيضا بسبب إخلاصه وتواضعه، وحيويته على رغم اعتلال صحته، بالإضافة إلى الذكاء الفريد والرأي السديد والغيرة على الدين والوطن.
وقد كان للحركة الإسلامية في مصر مطلع الخمسينات تأثير كبير على الشباب الفلسطيني، وفي قطاع غزة بالذات. وكان هناك اتصال وثيق بالدعاة عن طريق الجامعات والزيارات الشخصية للعلماء والوعاظ المصريين للقطاع. وكان للحركة الإسلامية بين الشباب برامج تربوية متكاملة.
وكان الشيخ أحمد ياسين من طلاب هذه الحركة المباركة منذ نعومة أظفاره. وكان يشترك في البرامج التربوية والرياضية التي تنظمها الحركة. وفي أثناء واحد من هذه التمرينات الرياضية في صيف العام 1952 سقط أحمد على رأسه، فاختلت فقرات عنقه، فنقل إلى العيادة، فالمستشفى ليكتشف الأطباء أن الإصابة خطيرة للغاية، فقد تداخلت فقرات العنق وانحرفت عن وضعها الطبيعي، وضغطت بالتالي على الحبل الشوكي ما سبب شللا جزئيا للجسم كله. وصار الشاب يسير على أصابع قدميه، وتصلبت أصابع يديه، ولم يستطع الإمساك بالقلم إلا بصعوبة شديدة. وقد ظلت حالته تزداد سوءا يوما بعد يوم، حتى انتهى به الوضع إلى ما هو عليه اليوم.
تقدم الشاب المصاب، والمتخرج من الثانوية بطلب لمدير التعليم للعمل كمدرس، فعرض الطلب على اللجنة المختصة، والتي بدورها أدرجت اسمه في الكشف المرفوع إلى الحاكم الإداري العام ليبدي رأيه، وكتبت أمام اسمه العبارة الآتية: (قدراته ممتازة، درجاته مرتفعة ومتفوق، لكنه أعرج !). ولكن إذا أراد الله شيئا هيأ له الأسباب، فقد تركت هذه العبارة في نفس الحاكم الإداري العام الفريق أحمد سالم رحمه الله أثرا لا يمحى، إذ كان ولده الصغير الحبيب إلى نفسه قد ولد أعرجا. فصاح معلقا باللهجة المصرية: (وإيه يعني أعرج ! يعني ما يشتغلش، يعني يموت من الجوع) واشار بقلمه الأحمر أمام اسم أحمد ياسين بكلمة (يعين).
تسلم الشيخ عمله مدرسا للغة العربية والدين في مدرسة الرمال الابتدائية، وكان التخوف أن يتعرض الأستاذ الأعرج إلى سخرية بعض التلاميذ، ولكن العجب العجاب أن الرجل استقطب احترام جميع طلاب المدرسة حتى المشاغبين منهم، فضلا عن احترام جميع العاملين بالمدرسة وأولياء أمور الطلبة. ومن خلال المدرسة ، مارس الشيخ الدعوة إلى الله تعالى في أروع صورها. ومن المواقف الطريفة التي حدثت في ذلك أن أحد أولياء أمور الطلبة، وكان طبيبا شيوعيا، جاء إلى ناظر المدرسة الأستاذ (محمد محمود الشوا) رحمه الله شاكيا غاضبا، وقال:
«يا عمي قبلنا أن يصلي الولد ! وقبلنا أن يذهب إلى المسجد ! أما أن يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع فهذا أمر صعب ولا نقبل به». فكان رد الناظر: «أنا سعيد جدا بهذا المدرس وسأقدم له كتاب شكر».
في العام 1966، ونتيجة للحرب التي أعلنها حاكم مصر على الحركة الإسلامية، اعتقل الأستاذ أحمد ياسين مع مجموعة من أصحابه لفترة بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم في مصر !! وفي فترة المد الشيوعي في الستينات فتح الشيخ حوارا مع الشيخ (عبدالله نمر درويش) في بلدة (أم الفحم)، والذي كان يشغل آنذاك منصب أمين الحزب الشيوعي في تلك البلدة، فأسفر الحوار عن تحول الرجل من الفكر الشيوعي الملحد إلى الالتزام بالإسلام. وفي السبعينات أنشأ الشيخ مع إخوانه جمعية (المجمع الإسلامي)، مستقطبا بذلك جميع العاملين في المجال الإسلامي في القطاع. وكان للجمعية نشاط إسلامي بارز في الأصعدة الدينية والثقافية والصحية والاجتماعية كافة. وفي العام 1983 اعتقل الشيخ بتهمة حيازة أسلحة قال عنها القاضي اليهودي «إنها لو استخدمت ضد إسرائيل لأحدثت كارثة فيها». وأفرج عن الشيخ العام 1985 ضمن عملية التبادل بين «إسرائيل» ومنظمة التحرير الفلسطينية. واعتقل مرة أخرى في مايو 1989، واعتقل معه ابنه محمد ليدفع كرسيه المتحرك! وأما الحسنة الكبرى للشيخ فدوره البارز في تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والتي صدر البيان الأول لها العام 1989. هذه الحركة المباركة التي أزالت آخر الشكوك في قابلية الأمة للنهوض والتصدي.
ذلكم المحرك: الشيخ أحمد ياسين، الذي تشرب - بحق - الإسلام العظيم فغدا رجلا عظيما.
ذلك هو المشلول العاجز المقعد بالمعايير المادية... ولكنه والله الذي رفع السماوات بغير عمد، لهو خير من يقف اليوم شامخا في وجه اليهود.
أما الحركة فهي حماس، التي استطاعت أن تفعل بالصهاينة ما لم تستطع فعله 18 ألف دبابة (مجموع ما لدى العرب من دبابات !).
وزعت حركة المقاومة الإسلامية أول بيان لها في الانتفاضة عشية يوم الاثنين 4 ديسمبر/ كانون الأول 1987. وقد أعلنت في بيانها هويتها الإسلامية، وهددت العدو الصهيوني بمقابلة عنفه بعنف أشد، وأكدت أن الإسلام هو الحل لقضية فلسطين. ومما جاء أيضا في البيان: رفض إضاعة الجهد والوقت في الركض وراء الحلول السلمية والمؤتمرات الدولية الفارغة... إن المعركة مع العدو معركة عقيدة ووجود وحياة حتى تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني.
استطاعت حماس أن تحرز نجاحا ملحوظا في الشارع الفلسطيني، واستقطبت تأييدا متزايدا من الجمهور الفلسطيني الذي ارتبطت آماله قبل مصالحه بهذه الحركة. ومن مرحلة انتشال الجيل، وتربيته على الإسلام، انتقلت حماس إلى دفع هذا الشعب المؤمن في وجه المحتل، ليكتشف العالم كله أن جهاد الشيخ عز الدين القسام لم يذهب سدى، وأن دماء الشهداء التي أريقت على مدى نصف قرن لم تكن هدرا.
وهكذا مضت حماس قدما في جهادها، تروي الأرض الطاهرة بدماء مجاهديها. واليوم، وبعد مرور 15 سنة على البيان الأول، وبعد استشهاد الكثير من أبنائها ، لا تزال حماس وجناحها العسكري (كتائب عز الدين القسام) محتفظة بقوتها وبالنوعية العالية لعناصرها، فما هو السر في ذلك؟
يقول الناطق الرسمي باسم الحركة عبدالعزيز الرنتيسي (المجتمع، العدد 1464):
«نحن نمتلك برنامجا تربويا كاملا نبدأ به مع الشباب على اختلاف أعمارهم، وأول عنصر في هذا البرنامج هو القرآن الكريم حفظا وتفسيرا، وكتب السنة والسيرة النبوية، والدراسات الإسلامية، وكذلك هناك كتب حركية ترسم لهم الخطوات التي يجب أن يخطوها، فتقولبهم قولبة أخلاقية تتماشى مع القيم والمفاهيم الإسلامية ، وفي مقدمتها العز والإباء والكرامة».
ويؤكد الرنتيسي «أن أكبر محرض يدفع الشباب للوصول إلى ذروة الإيمان، والإقدام على العمل في الجهاز العسكري، أو ليقوموا بتنفيذ عمليات استشهادية هو القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة». ويقول: «من تربى في هذا المحضن ونهل من هذا النبع يصبح جاهزا، ويأتي هنا دور الجهاز العسكري لانتقاء من يمكن أن يقبل بالإقدام على هذا العملية، وعادة ما يكون الانتقاء عبر الإلحاح الشديد من الشباب أنفسهم».
ويقول أمين عام الجماعة الإسلامية في لبنان الشيخ فيصل مولوي: «لقد كان انطلاق حماس في فلسطين تعبيرا صادقا عن حيوية الشعب الفلسطيني واعتزازه بالإسلام وإصراره على الحقوق السياسية الكاملة ككل شعوب الأرض، وأهمها حقه في تقرير مصيره وتحرير أرضه واختيار النظام الذي يحكمه. ولقد أثبتت حماس أن الشعب الأعزل يمكنه أن يصمد أمام أكبر الطواغيت، وأن يرفض أعتى أنواع الاحتلال الاستيطاني، وأن يواجه أضخم آلة عسكرية في العالم الثالث بالحجارة وبالإرادة والدم»
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 225 - الجمعة 18 أبريل 2003م الموافق 15 صفر 1424هـ