ويبقى السؤال يفرض نفسه بعد سقوط النظام العراقي على يد الغزاة: هل سيتّعظ نظامنا العربي بما حدث، ويعقد مصالحة حقيقية لا بلاستيكية مع شعوبه، فيكون واضحا معهم في كل شيء؟ مَن مِن الأنظمة سيستفيد من الدرس ويضع حدا لكل التجاوزات الإدارية والمالية، والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، فيعقد صفقة واقعية مع شعبه بعيدا عن لغة الالتفاف وأساليب الترقيع أو الضحك على الذقون؟
هل مع سقوط النظام سنلحظ شفافية أخرى من النظام العربي ليصافح شعبه في خلق جبهة وطنية كبرى، أم ان الدرس سيفسر بطريقة معكوسة ويزداد نظامنا الرسمي عتوا وتهميشا لشعوبه؟
لست متشائما عندما أقول: إن القليل هم من سيتعظون، واننا سنلحظ هناك من سيعمل على تفسير سقوط النظام تفسيرا آخر، خاليا من العبر وهناك صحافة، وأقلام، ومثقفون مدجنون وغيرهم من سيعمل على تجميل كل القبح العربي والسياسة العربية ليهمس في أذن النظام ان الديمقراطية مفسدة مطلقة، وأن خيار القمع ومصادرة الحريات واعتماد الكرباج على طريقة الحجاج هو الأسلوب الأفضل والأنجع لهذه الشعوب... ولكن كل ذلك لن يفيد النظام الرسمي العربي إذا ازدادت الاحتقانات وأصبح هناك أكثر من تحول وبدأت قاعدة «أكلت يوم أكل الثور الأسود» في التحقق... إن الضمانة الحقيقية لأي نظام ليست هي أجهزة المخابرات، أو تلك الحاشية المنتفعة والمستأثرة بكل شيء، وإنما الضمان هو المصالحة الحقيقية مع الشعوب بأن يكون لهم دور في صوغ القرار السياسي، وان يكون لهم موقع في توزيع الثروة، أما غير ذلك فيعني مزيدا من الاحتقانات، ويصل الأمر إلى ما وصل إليه العراق عندما فرح الناس بسقوط النظام وبتهشيم تمثال الرئيس. أعيب على النظام العربي اليوم كل هذه المحاولات الممجوجة في فضح مساوئ النظام العراقي، وكأن العراق كان الوحيد في عملية القمع والإبادة وتجويع الشعب ومصادرة الحريات... النظام العربي كله متورط في ذبح المعارضين وتشريدهم واستغلال المنصب والثروة ليموت الناس جوعا... ليس وحده النظام العراقي الذي كان يطارد المعارضين، فديمقراطية البتر تكررت في أكثر النظم العربية.
إن النظام العربي مازال في غيبوبة، ويرى انه ليس معنيا بدرس العراق.لقد قال صدام قبل شهرين من سقوطه: «ان العراقيين انتخبوه بنسبة 100 في المئة»، بل ووقعوا عريضة الانتخاب بدمائهم... هكذا هو حال النظام الرسمي العربي، تزوير الحقيقة إلى درجة السفه والدجل، وعرض التلفزيون العراقي ـ الشعب ذاته الذي خرج فرحا بسقوط النظام ـ صورته وهو يوقع ـ تحت ضغط المخابرات ـ عريضة الانتخاب بالدم على طريقة بالروح بالدم نفديك يا صدام!!! هو الشعب ذاته الذي راح يبصق على صور الرئيس المنتخب، فلم ينفع كذب الإعلام أو قبح النخب عندما راحت تجمل كل قبيح في النظام من دون أن تلتفت إلى أنها بذلك القبح الإعلامي ـ تقوم بإيصال عنق النظام نحو المشنقة من حيث لا تعلم... لأن قيمة النظام من قيمة رقي وتطلع وحضارة وحرية الشعب...
كل ذلك الطلاء ذهب في عشية وضحاها وتساقطت تلك التماثيل والأصنام الشخصانية لصورة الرئيس والمزروعة في كل مكان حتى تحولت العراق كلها إلى صدام، فعندما غاب غابت العراق كلها، فعمت الفوضى في كل مكان... هذا هو قدر الدول التي تقتل المجتمع المؤسسي وتقتل التعدد وتفرض المركزية ولو على جماجم المواطنين... لقد اختزلت السلطة والوطن في الرئيس، وأصبح الرئيس تراه في كل مكان حتى في دورات المياه... تلك التماثيل سقطت وتلك الأصنام ذهبت... ورحلت كل البوسترات والنياشين... كلها لم تنفع النظام.
ان هذا درس يجب ان تفهمه الانظمة العربية الرسمية بان الضمانة الحقيقية لهذه الدول هي شعوبها فيجب ألا تبقى مهشة ومهملة ومصادَره فهي الضمان لمنع الغزاة.
هذا درس يجب ان نفهمة جيدا ونذكره دائما - عندما تسقط قلاع الحرية يصبح من السهل على العدو ان يقتحم الحدود... فالوطن عندما يفقد حريته يصبح مدينة مفتوحة للغزاة والفاتحين.
ومن المفارقات الكبرى التي تركها النظام العراقي كي يستفيد منها نظامنا العربي، تلك «القارونية» التي كان يعيشها النظام، وذلك الفقر الذي كان يفتك بالشعب... فصدام رحل تاركا وراءه 27 قصرا وبدأت على شاشات التلفاز صور القصور وصور تلك السيارات الفخمة التي قدر إحداها بأنه قد يصل إلى 5 ملايين دولار، في حين رأينا صورا كثيرة للبيوت الطينية التي كان يعيش فيها الشعب العراقي. ما الذي سيفقده النظام لو انه أعطى ولو عشر الجبنة أو الكعكة إلى شعبه؟... وكم سيأكل النظام؟ فإنه لو وزع الفتات لأصبح الشعب أفضل حالا... لماذا نعيد صورا لشاوشسكو الذي ذبح الناس ورحل تاركا وراءه صورا مرعبة للإسراف والترف والتبذير، في حين ان شعبه كان يأكل التراب ويسكن في الطين.
ويبقى السؤال: هل يتّعظ نظامنا الرسمي العربي بما حدث في العراق؟
مرت على تاريخنا صور وحكايات عن جشع الأنظمة ومجاعات الشعوب، ولكن المأساة تتكرر، فالإرادات الشعبية تزوّر عبر انتخابات صورية ومن يقول (لا) يقتل أو يغيب، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة. قبل 40 عاما كان الأديب مصطفى أمين يعيد النصيحة ذاتها التي تطرح اليوم إلى الدول العربية بأن تتعظ بتجارب سقوط الأنظمة الدكتاتورية...
كان يقول في كتابه «تحيا الديمقراطية»... نعم قبل 40 عاما وهاهو الجميع يكرر النصيحة: «كان يجب أن تتعلم مصر ان نهاية كل دكتاتور واحدة... تبدأ بطبول وزمور وأقواس نصر، وتنتهي بخراب وإفلاس وهزيمة عسكرية واحتلال أجنبي... ودائما نحتاج إلى سنوات لنتعلم الدرس... يستفيد غيرنا ونبقى نحن على ما نحن عليه...».
العراق كان يملك دستورا منذ العام 1970، ولكن على رغم كل ذلك كان بحجم العدم. هل يخرج النظام العربي من كذبة الديمقراطية البلاستيكية إلى صدق الديمقراطية الحقيقية؟ هل سيرسخ المجتمع المدني؟ هل ستعود النقابات الحقيقية؟ هل فهم النظام الرسمي العربي أن الحكم الدكتاتوري يحتاج إلى الكرباج والحكم الديمقراطي يحتاج إلى العقل؟
«فالدكتاتورية تحتاج إلى الزبانية، أما الديمقراطية فتحتاج إلى العلماء والفلاسفة والحكماء، الدكتاتورية تحتاج إلى الطبل والمزمار، والديمقراطية تحتاج إلى البحث والدرس، تلك تحتاج إلى وضع الأفكار والمفكرين في المعتقلات والسجون، أما الديمقراطية فتناقش الأفكار علنا في المجتمع المفتوح...».
يقول الباحث الاستراتيجي عبدالله النفيسي: «إن مشكلة النظام العربي ان القبيلة تتستر وراء الديمقراطية...». لذلك تحولت الديمقراطية إلى ديكور وشكل، فتخشبت بعد غياب المضمون... لقد أصبحت المشاركة السياسية لهذه الشعوب تتصف بالشكلية والموسمية وعدم الفاعلية... وأصبحت الانتخابات في أكثر هذه البلدان معلومة النتائج مسبقا، وأصبحت تصل إلى 99,9 في المئة والتاسعة المخالفة عرجاء توصف بخيانة الوطن.
هل سيعود النظام العربي إلى رشده فيمنح الشعوب حريات ومجتمعا مدنيا قويا أم سيظل يلعب لعبة العصا بلا جزرة؟
هذا ما ستفصح عنه الأشهر المقبلة وخصوصا نحن نرى ان الثور الآخر أُعد للسلخ يوم أكل الثور الأسود، وكل يوم تقضم أميركا دولة أخرى حتى تصهين وتعبرن كل الأوطان (كرمال) لعيون «إسرائيل»... وهاهي أميركا تلعب اللعبة القذرة ذاتها مع سورية وهاهو السيناريو ذاته يتكرر وبالعلة ذاتها «وجود أسلحة دمار شامل»... وسنرى مؤتمرات مستقبلية وإدانات وبيع ذمم وصفقات بفتح المجالات الجوية أو بالدعم اللوجستي مقابل إسقاط ديون أو منح إعانات ممزوجة بدماء شعوب وسقوط منظومات قيمية راهنّا عليها، وإذا بها تباع في المزاد العلني... كل ذلك طبعا سيجر المنطقة إلى منحدرات أمنية خطيرة، وسيفاقم احتقانات قد تحرق دولا في حروب أهلية، فلا يستطيع المرء إلا أن يقول: عوافي يا عرب وكل عام وأنتم في رجوع، وعقبال ما تحكم «إسرائيل» المنطقة.
كل ذلك نستطيع أن نمنع حدوثه لو اننا ثبتنا الديمقراطية وشاركنا الشعوب في صوغ القرار السياسي، وقمنا بتوزيع الثروة توزيعا عادلا... هذا هو الدرس... وأخاف أن يعاود غيرنا إلى تقديم النصيحة بعد 40 عاما وهكذا... ولا من سميع
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 225 - الجمعة 18 أبريل 2003م الموافق 15 صفر 1424هـ