إلى أي حد يمكن تصديق الأبحاث والدراسات التي أخذت تصدر حديثا في الولايات المتحدة، وتشير إلى الأصول الايديولوجية - الثقافية لكتلة الأشرار الحاكمة في البنتاغون؟ تقول تلك القراءات أن أصول «ايديولوجيا الشر» التي تقول بها تلك «الكتلة» تنتمي إلى أولاد وأحفاد عائلات (تروتسكية) نزحت في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، هاربة من الاضطهاد الستاليني في الاتحاد السوفياتي ومع الأيام «تأمركت» وأعادت تشكيل أفكارها وتصوراتها في ضوء النموذج الرأسمالي - الأميركي.
تقول تلك الأبحاث الجديدة إن «كتلة الشر» استلهمت التروتسكية في صوغ أيديولوجيتها الجديدة. فالثورة العالمية الاشتراكية عند تروتسكي تحولت إلى عولمة أميركية عند هذه الكتلة. ونظرية الثورة الدائمة عند صديق لينين أصبحت الحروب الدائمة عند هؤلاء. واحتقار الفلاحين والسخرية من ثورة الشرق وحركات التحرر والاستقلال الوطني التي كانت قوية في فكر ليون تروتسكي انتقلت عند هذه الكتلة إلى نوع من احتقار الآخر وتحديدا المختلف في جنسه ولونه وتربيته الاجتماعية وتركيبته الثقافية. والثورة الناقصة التي لا تكتمل إلا بشروط عالمية (الطبقة العاملة الأوروبية) ورفض نظرية ستالين (الاشتراكية في بلد واحد) أصبحت عند هذه الكتلة ترتدي نزعة عدوانية تهدف إلى تحطيم ثقافات الآخر المختلف وإعادة تشكيلها بالقوة من طريق الارهاب الدولي. ومراهنة تروتسكي على دور الجيش (الأحمر) في قيادة قاطرة التاريخ وفرض التحول نحو الاشتراكية بالقوة العسكرية والانتقال من محطة إلى أخرى أصبحت عند هذه الكتلة الشريرة استخدام الجيش (حاملات الطائرات) لكسر أية قوة اقليمية منافسة أو صاعدة تهدد النموذج الأميركي في صوغ شخصية العالم وفق صورة مثالية تقسم العالم إلى شر وخير، ومع وضد، واستخدام القوة في تدمير القوى المضادة لأن هذه القوى تعطل مسيرة التقدم التاريخية.
هناك كثير من التشابه بين ماركسية تروتسكي وامبريالية كتلة الشر... إلا أن التشابه الأيديولوجي يقع في دائرة الحسب والنسب ومن الصعب وضعه في دائرة العصب نفسه. فالتروتسكية في معناها الأيديولوجي مسألة مختلفة إلا أن إعادة انتاجها أميركيا في ظروف دولية انهار فيها الاتحاد السوفياتي (دولة ستالين خصم تروتسكي الشخصي) يمكن أن نلاحظ فيها بعض التقاطع في المفاهيم العامة من دون أن يعني الأمر أن هناك ما يشبه التطابق في الجوهر.
وحتى نصل إلى جواب مقارب لابد من قراءة ماركسية تروتسكي (المثالية في جوهرها) واختلافها عن ماركسية لينين (الواقعة في جوهرها) وميل جوزيف ستالين إلى نظرية لينين ورفضه نظرية تروتسكي حين توفي قائد الثورة البلشفية في العام 1924 واندلاع حرب الخلافة على الزعامة (السلطة) بين تيار ستالين (اللينيني في جوهره) وتيار تروتسكي (المثالي في جوهره).
قراءة الصراع الستاليني - التروتسكي تساعد على تحديد نقاط الافتراق والتشابه بين آراء تروتسكي (الاشتراكية) وآراء كتلة الشر (الأميركية). فالصراع الستاليني - التروتسكي في جوهره هو صراع على السلطة إلا أنه اتخذ سلسلة مفاهيم أيديولوجية عكست ذاك الاختلاف بين «رفاق الثورة» واجتهاداتهما في تفسير الماركسية (الأوروبية) وامكانات تطبيقها في بلد غير أوروبي (نصف أوروبي - نصف آسيوي) وغالبية سكانه من أهل الريف والفلاحين.
إلى الخلاف الأيديولوجي تشخصنت الصراعات بين تروتسكي وستالين. فالأول ابن مدينة ومعجب بأوروبا ويرى أن الثورة البلشفية حصلت في البلد الخطأ وكان يجب أن تقع في البلدان الأكثر تطورا في تقدمها الصناعي الثقافي. والثاني ابن فلاح من عائلة ريفية جورجية يشعر بعقدة نقص ثقافية واجتماعية ولكنه يتمتع بعزة نفس وكرامة ويكره كل من يحتقره ويستعلي عليه ويمارس ضده الارهاب الفكري والثقافي (تروتسكي يعرف اللغات ومطلع أكثر منه على الثقافة الأوروبية) ويسخر من سلوكه الاجتماعي.
تروتسكي كان يحتقر ستالين ويعيره بأصوله الريفية والفلاحية، وستالين كان يكره تروتسكي ويتهمه بالعجرفة والاستعلاء على الشعب الروسي المسكين (80 في المئة آنذاك كانوا من الفلاحين).
وعلى أساس هذه العقد الشخصية والكراهية المتبادلة نمت نزعة أيديولوجية مضادة لبعضهما بعضا انعكست في الحزب الحاكم (الشيوعي) وتحولت إلى كتل سياسية تتصارع على السيطرة على الدولة. ومن يفوز بالدولة يفوز بالجيش (قائده ووزير دفاعه آنذاك كان تروتسكي) ومن يفوز بالجيش يفوز بالسلطة ويستخدمها (الأجهزة والمؤسسات) للإجهاز على الآخر. وعلى هذا الأساس تبلورت بين الطرفين أكثر من نقطة خلاف أيديولوجية تحولت لاحقا إلى مرتكزات سياسية استخدمها كل فريق ضد الآخر. وكان نصيب ستالين هو الفوز على خصمه الأول في الاتحاد السوفياتي فقام بالانتقام منه فهرب تروتسكي مع جماعته إلى مكسيكو وبدأ بتأليف الكتب المضادة للستالينية. فأرسل ستالين من يلاحقه ونجح في اغتياله في منفاه في الثلاثينيات.
وتشتت التروتسكية وتحولت إلى قوة أيديولوجية مناهضة للستالينية وبالتالي للاتحاد السوفياتي. وبسبب العداء التروتسكي للتجربة السوفياتية (الستالينية) تحولت التروتسكية إلى فريسة سهلة للأجهزة الأميركية والغربية في استخدام علومها وكراهيتها للشرق والفلاحين ونزعة الاستقلال الوطني والحركات المضادة في جوهرها للاستعمار عموما والولايات المتحدة خصوصا.
لا شك في أن الأجهزة الأميركية اصطادت الكثير من الكارهين للشرق والاتحاد السوفياتي باسم العداء للستالينية وأعادت توظيفهم في إطار صراعها ضد موسكو في فترة «الحرب الباردة».
إلا أن هذا التطابق الشكلي لا يعني وبالضرورة أن يعكس إلى حد كبير ذاك التطابق الجوهري بين التروتسكية وكتلة الشر في البنتاغون؛ فالتشابه موجود إلا أن الاختلاف الجوهري بين اهداف تروتسكي وطموحات الأمركة العالمية بحاجة إلى مزيد من القراءة اعقد وأدق من تلك الدراسات والأبحاث الأميركية الجديدة عن الأصول الأيديولوجية لمجموعة العولمة في البنتاغون
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 225 - الجمعة 18 أبريل 2003م الموافق 15 صفر 1424هـ