العدد 225 - الجمعة 18 أبريل 2003م الموافق 15 صفر 1424هـ

اليوم بغداد وغدا باريس

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

لعلنا نشاهد إحدى الحلقات المأسوية في تاريخ الإنسانية عندما أزيح الطاغية صدام حسين وتسلم الأميركان الحكم مكانه. فالحكام الجدد لا يفهمون شيئا عن العراق أو المنطقة، وتحليلاتهم ونظراتهم توضح النقص الشديد في المفاهيم البسيطة عن المنطقة وشعوبها ودينها وتفرعاتها. وهذا الأمر لم يعد محرجا للإدارة الأميركية بقيادة أحد أقل الأشخاص فهما في التاريخ الرئاسي للولايات المتحدة. ولا يبدو من الرئيس جورج بوش انه قد قرر معالجة جهله عبر دروس إضافية، لأنه مشغول بتوزيع ابتسامات غير ذكية أمام الكاميرا.

مساعد وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز انتصر على وزارة الخارجية، وتجاهل كل تحفظات الأخيرة عن المجموعة التي خلفتها واشنطن (المؤتمر الوطني العراقي)، وقرر تنصيب المجموعة على العراقيين.

ويعتقد ان العراقيين سيؤمنون بهذه المجموعة، لأنها تعطي معاشات شهرية لكل من يلتحق بها بمعدل 150 دولارا شهريا، وهو معاش أقوى ثلاث مرات من معاشات كبار موظفي الدولة، وبالتالي فإن العراقيين، حسب فهم وولفويتز سيقبلون بالمجموعة التي خلقتها الإدارة الأميركية لتسلم الحكم في العراق، وخصوصا بعد أن يعلموا بأنهم سيحصلون على الدعم المباشر من القوات الأميركية التي ستبقى في العراق سنين وعقودا طويلة جدا، بحسب تخطيط وولفويتز ورئيسه دونالد رامسفيلد.

والظاهرة المسيطرة على الحكام الجدد ليست منحصرة في السياسيين والعسكريين الذين تسلموا الوضع بل ان المستشارين الذين يفترض فيهم الفهم أجهل منهم. فأحد المستشارين في واشنطن واسمه ستانلي ويز كتب عن الخلافات بين الشيعة في العراق، وعلل ذلك إلى ان النجف الأشرف «هي مركز الشيعة الإخبارية»، وهي على خلاف مع «قم المقدسة» مركز الشيعة الأصولية، وان الاخباريين يقول «بفصل عالم الدين عن الحكم»، بينما يقول الأصوليون في قم بضرورة «تسلم عالم الدين الحكم».

هذه الجمل من الجهل بدرجة تجعل حتى الرد عليها إهانة لعقل الإنسان. فالنجف ليست مركزا للمدرسة الاخبارية في الفقه الجعفري، وقم ليست كما يقول، والخلافات التي يتحدث عنها ليست لها علاقة، ولو بكلمة واحدة مما كتب.

هذه العبارات من أحد «المستشارين» الذين يبيعون خبراتهم إلى الإدارة الأميركية ـ التي لا تفهم شيئا عن أمور منطقتنا ـ إنما يزيد جهلها جهلا.

على ان أخطر ما قامت به الإدارة الأميركية في حربها على العراق هو اعتمادها مفهوم «الضربة الوقائية»، وهو المفهوم نفسه الذي تعتمده الدولة الصهيونية ضد الدول العربية. وكان بوش قد قال سابقا إنه من المعجبين بالارهابي ارييل شارون وبكتابه الذي يتحدث عن «الضربة الوقائية».

غير ان مفهوم الضربة الوقائية لا يختلف كثيرا عن مفاهيم القوانين والممارسات الدكتاتورية. فقانون أمن الدولة كان يعتمد على مفهوم الاعتقال الإداري الاحترازي كإحدى وسائل «الضربة الوقائية» التي تؤمن بأن على جهة ما ان تضرب جهة أخرى قبل أن تبدأ تلك الجهة بالتحرك أو القيام بأي عمل ضدها.

وعلى أساس هذا المفهوم شنت «إسرائيل» الضربات الواحدة تلو الأخرى بمساندة الولايات المتحدة الأميركية التي وقفت دائما وأبدا معها... غير ان القيادة الأميركية وباتباعها النهج الإسرائيلي في سياستها الدولية ـ بدءا بالعراق ـ تدشن مرحلة خطيرة في عالم السياسة. المحيطون بجورج بوش يحتقرون الأمم المتحدة ويحتقرون أي طرف يعارض كلامهم. ولذلك فإن فرنسا أصبحت «عدوة» لأميركا، لأنها عارضت مفهوم أميركا وسعيها لفرض هيمنتها على العالم.

أثناء زيارتي لإحدى المؤسسات غير الحكومية في باريس كان المسئول الذي يحدثني قد علق خلف ـ عدد من الصور والتعليقات الكارتونية. واحدة من تلك التعليقات تقول: «اليوم بغداد وغدا باريس!».

نعم، جميع المبررات التي استخدمت لضرب بغداد يمكن استخدامها لضرب باريس غدا، وليس فقط دمشق والدول العربية والإسلامية. فالمبررات الواهية تزرع ألغاما وتؤسس لشريعة الغاب في العالم.

الشيء الوحيد الذي تحدثت عنه الإدارة الأميركية وتناغم مع المظلومين في العراق وخارج العراق هو زوال الطاغية صدام، وهو أمر أفرح قلب كل من عرف ما كان يحدث لأهل العراق من عذاب واستهجان. ولكن غالبية الشعب العراقي لا تريد الاستعمار بأي شكل من الأشكال. وما حدث في الأيام الماضية يؤكد أصالة هذا الشعب الذي يرفض الاستعمار ويرفض رفع العلم الأميركي بدلا من العلم العراقي.

الشعور في الشارع الفرنسي هو ان الولايات المتحدة تتعامل معهم كما تتعامل مع العراقيين وغيرهم، ولو بدرجة مختلفة هذه الأيام. ولكن الجهل المركب لدى القادة الأميركان المسيطرين على البيت الأبيض وغرورهم واستعراضاتهم العسكرية من شأنها أن تدفع المنطقة إلى مزيد من أساليب شريعة الغاب الجديدة. وإذا كان الأميركان لا يهتمون بما يقوله الفرنسيون وهم من الدول الكبرى في عالم اليوم وتمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن، وإذا كان الأميركان يحتقرون الأمم المتحدة، وإذا كان الطرف الوحيد الذي يستمعون إليه ويأخذون بنصائحه هم شارون وأمثاله، وإذا كان التحليل الأميركي يعتمد على «الأبيض» و«الأسود»، وإذا كانت السياسة الأميركية ألغت السياسة الدولية، واعتمدت على قوات المارينز وقاذفات بي ـ 52 وصواريخ كروز، فأي عالم تقوده الولايات المتحدة؟

وجهة النظر القاصرة لدى الأميركان هي أن عالمهم يقوده «الدولار» من جانب، و«العسكر» من جانب آخر. فالحزب الذي سيحكم العراق ليس حزب البعث الذي انتهى إلى غير رجعة، وإنما الحزب الذي يتسلم أعضاؤه 150 دولارا شهريا، أي ثلاثة أضعاف كبار موظفي الدولة العراقية حاليا. وفي حين ازدادت معاشات موظفي الدولة سيتم زيادة معاشات أعضاء الحزب التي خلقته الولايات المتحدة.

القوة المادية والعسكرية لم تخلق حضارة في الماضي ولن تخلق حضارة في المستقبل. فكل الحضارات كانت لديها فكرة، والفكرة هي التي كونت الحضارة، ثم تصبح لتلك الحضارة قوة، فيصيب الغرور القائمين عليها، عندما يلجأون إلى استخدام القوة بدلا من الفكرة. ويبدأ بعد ذلك أفول الحضارة.

المؤرخ الأميركي بول كينزي كتب يتحدث عن صمود وأفول الحضارات والقوى العظمى، وتنبأ ببداية أفول القوة الأميركية لأنها بدأت باعتماد القوة أساسا لوجودها، وعندما تسلم بيل كلينتون رئاسة أميركا قال كينزي إنه أعاد تقييم ما قاله لأن كلينتون غيّر مجرى الأمور واعتمد على الفكرة أكثر من القوة. ولكن جهال البيت الأبيض الغوا الفكرة منذ وصول بوش الابن واستبدلوها بقوة العسكر والدولار

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 225 - الجمعة 18 أبريل 2003م الموافق 15 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً