من المبكر الحديث عن شكل النظام الامني الاقليمي المرتقب، لكن الاكيد انه سيكون هناك نظام جديد. والاكيد ايضا ان اميركا ستكون اللاعب الاكبر فيه، وخصوصا انها اخذت زمام المبادرة بقرار سياسي منفرد، وخاضت حربا ضد العراق، والحرب عادة هي نقطة التحول في مصير الشعوب، وبها تقوم وتسقط الامبراطوريات الكبرى. قامت اميركا عقب انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وسقطت نتيجة لذلك أحلام ألمانيا. كذلك الأمر تراجع مركز كل من بريطانيا وفرنسا... كل ذلك بسبب الحرب.
ماذا عن منطقة الخليج؟
- إن الحديث عن منطقة الخليج، يلزمنا تقسيم المراحل إلى اثنتين. الاولى، مرحلة ما بعد تحرير الكويت العام 1991. والثانية، مرحلة ما بعد الحرب الاخيرة، في ابريل/ نيسان 2003.
كيف كان شكل النظام الاقليمي بعد العام 1991؟
- ظل النظام الاقليمي بعد العام 1991 يعتمد في روحيته على عقيدة الرئيس جيمي كارتر التي اطلقها العام 1980. في هذه العقيدة حذر كارتر أية قوى خارجية عن منطقة الخليج، من التدخل فيه، لان المنطقة تعتبر حيوية للامن القومي الاميركي. وإحدى أهم النتائج التي ظهرت نتيجة هذه العقيدة، تمثلت في إنشاء قوة التدخل والانتشار السريع، وفي تأمين القواعد العسكرية لها في المنطقة. إذ المنطقة حيوية للأميركيين، وهم مستعدون للقتال من أجلها.
كيف سارت الامور خلال وبعد حرب الخليج الثانية؟
- حررت اميركا الكويت من العراقيين، من خلال تحالف دولي يتمتع بغطاء الشرعية الدولية، والمقصود هنا مجلس الامن. فصدرت في هذا الاطار الكثير من القرارات، منها ما يتعلق بالحرب مباشرة، ومنها ما يتعلق بإدارة الموضوع العراقي لمرحلة ما بعد الحرب.
حدثت بعدها تطورات في العراق لم تتعامل معها اميركا بصورة سليمة، وذلك عندما ثار الاكراد والشيعة على النظام العراقي. أدى هذا الامر إلى خلق منطقتي الحظر الجوي على الجيش داخل العراق. علما بأنه لا تتوافر شرعية دولية لتلك المنطقتين (فلا يوجد قرار من مجلس الامن).
وكي تحكم أميركا سيطرتها على المنطقة، وتردع الدول المجاورة للعراق، اعتمدت استراتيجية الاحتواء المزدوج لكل من ايران والعراق. وكان مارتين انديك هو مهندس هذه الاستراتيجية.
كالعادة، وكي تكون الدبلوماسية منتجة، كان لابد من دعم هذه الدبلوماسية بالقوة العسكرية. لذلك انشأت اميركا القواعد المهمة في كل الدول التي كانت مشاركة في حرب 1991، وخصوصا الدول المجاورة والمحيطة بالعراق.
على ماذا قامت أسس الوجود العسكري الاميركي؟
- كي يكون لها وجود فاعل، اعتمدت اميركا مبدأ «الردع المتقدم» Forward Deterrence. فعلى ماذا يقوم هذا المبدأ؟
وجود قوات عسكرية رمزية في كل الابعاد، البرية، الجوية، البحرية والفضائية.
تأمين القواعد اللازمة لهذه القوى. البرية في الكويت، قطر... الخ. الجوية في تركيا. الفضائية والاستعلامية في الامارات.
وقعت أميركا اتفاقات مع دول المنطقة، يُسمح لها بموجبها خزن العتاد المسبق لقوى قد تأتي في الحالات الطارئة.
في الحالات الطارئة، تتدخل القوى الموجودة على المسرح الخليجي، وتنتظر قدوم القوات الاضافية من أوروبا أو أميركا. تتزاوج هذه القوات الجديدة مع العتاد المخزن مسبقا في المنطقة وتصبح قادرة على القتال، وذلك توفيرا للوقت اللازم لشحن هذا العتاد. وشكلت هذه المنظومة استراتيجية «الردع المتقدم».
اتت ضربة 11 سبتمبر/ ايلول لتقلب الامور رأسا على عقب. وتقدم الموضوع العراقي ليحتل مقدمة سلم الاولويات على الاجندة الاميركية. تفردت اميركا وذهبت إلى الحرب، وها هي تحقق انتصارا سريعا لم يكن بالحسبان. وكما قلنا، هذه الحرب ستغير المعادلات في المنطقة وترسم خطوطا جديدة. وهناك قلق اقليمي ودولي من نتيجتها على النظام الدولي. كيف تبدو الصورة الاولية في المنطقة؟
من خلال التجارب السابقة في المنطقة، تعتبر اميركا انه كلما كان العراق قويا من الناحية العسكرية، كلما كانت المنطقة أقل استقرارا. فالعراق لايزال يحارب منذ 20 سنة ونيف تقريبا، ومغامراته طالت كل الجوار. من ايران، إلى الكويت، وحتى «اسرائيل»، هذا عدا عن عدائه لتركيا وسورية. كذلك الامر، لم يغب عن بال اميركا استعمال العراق أسلحة الدمار الشامل، حتى ولو كان هذا الاستعمال ضد الشعب العراقي.
اقتنعت أميركا انه لابد ان تأخذ زمام المبادرة بيدها. فالاتكال على الانظمة الصديقة لم يحقق الاستقرار في المنطقة. فبمجرد تغيير النظام، كادت تسقط المنظومة الاميركية برمتها، فهكذا كان الحال مع نظام الشاه مثلا.
تريد أميركا فرض شكل جديد للشرق الاوسط، توزع فيه الادوار حسبما ترغب، تكون هي الراعية، وأسواقه مفتوحة ولا تستثني «إسرائيل».
تريد اميركا ربط هذه الحرب ونتائجها، بالحرب العالمية الثالثة على الارهاب. فهي ستحول حربها من ضد عدو لا شكل ولا قاعدة سياسية له، إلى ضد دول معترف بها ومتهمة بانها ساهمت في وقت من الاوقات بدعم هذا الارهاب، حتى ولو عن غير قصد. المرحلة المقبلة والاهم في الحرب الاميركية على المنطقة، ستكون حتما ضد العقول والافكار، اي ستتناول المناهج الدراسية.
ماذا عن شكل النظام الامني الاقليمي المرتقب؟
لا يمكن لهذا النظام ان يرسم ويفرض من دون أن يتأثر بالحرب الاخيرة ضد العراق ونتائجها (2003). فالحرب الاخيرة كانت سريعة، حاسمة. وكان فيها الدول الاقليمية المعارضة بخجل للحرب، والدول الاقليمية المعارضة بشدة. كذلك الامر على الصعيد الدولي. هناك من شارك وساهم، وهناك من عارض واتخذ مواقف متشددة، وعدائية في بعض الاوقات.
ماذا عن الشكل المرتقب؟
- بما ان الحرب دارت على الارض العراقية، لابد إذا من ان يكون العراق نقطة انطلاق هذا النظام. وقد يعيدنا هذا الأمر ويذكرنا بحلف بغداد في العام 1958. سيكون العراق المجرد من كل أنواع الاسلحة، باستثناء أسلحة الشرطة، مركز ثقل تواجد القوات الاميركية، الظاهر منها والمستور. وسيكون العراق مركز التنصت الاميركي الرئيسي على المنطقة ككل، وذلك عبر وكالة الامن القومي National Security Agency. وبالتأكيد سوف يرفع الحظر عن العراق بكل أشكاله وأنواعه، كذلك الامر الاحتواء.
سيكون النظام المستقبلي معتمدا على موازين القوى لدول المنطقة، كما ورد في استراتيجية بوش للأمن القومي National Security Strategy، على ان تكون فيه اميركا الراعي الاكبر.
ستخفف أميركا من وجودها العسكري في الدول المحيطة بالعراق، وخصوصا الدول التي كانت ممانعة في وقت من الاوقات للحرب على العراق. تدخل السعودية في هذا التصنيف.
سيتكامل هذا النظام مع نتائج الحرب الاميركية على افغانستان. فمنطقة آسيا الوسطى، ومن ناحية التقسيم العسكري الاميركي للعالم تقع تحت مسئولية القيادة الوسطى Central Command.
ستبقي اميركا على القواعد العسكرية التي اثبتت انها مهمة بعد الحرب الاخيرة، وفي الابعاد كافة (البر، البحر، الجو والفضاء).
ستبقى السيطرة على الممرات والمنافذ البحرية من الامور الحيوية للاستراتيجية الاميركية.
تعرف اميركا انها لن تكون محبوبة في المنطقة حتى ولو ضحت بكل شيء. لكنها تريد حتما ان تكون مرهوبة الجانب Feared، بشكل ان تعكس صورة قوية في الادراك الحسي لانظمة وشعوب المنطقة.
واخيرا وليس آخرا، ستبقي اميركا كل الدول الكبرى، والامم المتحدة خارج امكان التأثير في المنطقة، إلا إذا كان الدور المراد لعبه ثانويا.
ستعمل اميركا على فرض حل للقضية الفلسطينية، لكن بشكل لا يغضب «اسرائيل». فالضغط انتقل الآن بعد الانتهاء السريع من العراق، إلى فلسطين. وأصبح الرئيس بوش ملزما بالعمل على الحل السلمي للقضية الفلسطينية. وأصبح القادة «الاسرائيليون» مقتنعين بأن بوش جاد عادة فيما يقول ويعد به. ويبقى الخطر في امكان سعيهم إلى نسف هذه الجهود قبل نضوجها.
من هم اللاعبون في المنطقة؟ يجب تقسيم اللاعبين إلى أساسيين وثانويين، فماذا عنهم؟
الحلفاء الأساسيون
تعتبر تركيا الدولة الاهم في هذا النظام المرتقب. فهي حاجة استراتيجية كبرى لاميركا. ولتركيا وجهان: واحد باتجاه القوقاز واوروبا، والآخر باتجاه العراق وايران. وإلا فبماذا يفسر الحرص الاميركي على تركيا على رغم انها رفضت استقبال القوات الاميركية على أرضها، وهي تعرف ضمنا اهمية هذه الحرب للاستراتيجية الاميركية الكبرى؟ تتقاسم اميركا الكثير من المصالح مع تركيا في المنطقة. فهي بلد ديموقراطي علماني، بجيش متجانس عملانيا مع الجيش الاميركي. لها مصالح في العراق كما لاميركا. وإذا كان العراق نقطة ومركز ثقل النظام الاقليمي الجديد، كان لابد من التعاون الوثيق بين الاثنين.
تأتي «إسرائيل» بعد تركيا في هذا النظام. فهي إذا دخلت إلى المنطقة عبر الحل المرتقب للقضاة الفلسطينية، فإنها ستكون لاعبا اساسيا تتكل عليه اميركا كثيرا. فهي ستلعب الدور الرادع في بعض الاحيان لبعض الدول الممانعة في المنطقة. وستكون لاعبا اساسيا في المجال الاستخباري. لكن المؤشر المهم والاخطر على الدول العربية، سيتمثل بمدى عمق التعاون الاستراتيجي بين «اسرائيل» وتركيا. فكلما تعمق هذا التعاون الاستراتيجي، كلما همش العرب وكانوا مستهدفين.
تعتبر مصر مهمة استراتيجيا للنظام المرتقب، لكنها لم تعد المحور الاستراتيجي الوحيد لاميركا في المنطقة. فهي تقريبا بعيدة جغرافيا عن المسرح العراقي والمنطقة المحيطة به. اهميتها قد تكون في الحفاظ على السلم مع «إسرائيل»، وحماية الممرات البحرية، وذلك بانتظار دور قد يظهر مستقبلا على الصعيد الافريقي.
للمملكة السعودية حساب مختلف في النظام الجديد. لكن الاكيد ان اميركا ستعتمد عليها استراتيجيا في المجال النفطي. ستبقى الحليف الدائم، مع الطلب إليها باجراء تغييرات معينة، مع تقليل وجودها العسكري.
فيما يخص الدول الخليجية الباقية، لكل منها دور سوف لن يتعدى المساهمة في استضافة القوات الاميركية.
الأعداء الأساسيون
تندرج إيران في الصف الاول لاعداء اميركا في المنطقة. اميركا الشيطان الاكبر بالنسبة إلى إيران. والتاريخ بين ال
العدد 224 - الخميس 17 أبريل 2003م الموافق 14 صفر 1424هـ