بينما العالم منشغل بمتابعة ما يجري في العراق، وكيف تستخدم اميركا قوتها العسكرية لتنفيذ رغباتها وإعادة رسم الخريطة السياسية للشرق الاوسط، انشغل الاوروبيون في متابعة ما جرى في اثينا عندما اجتمع قادة الاتحاد الاوروبي وعدد دوله خمسة عشرة دولة للاتفاق على مستقبل الاتحاد بعد اضافة عشر دول اوروبية اخرى حضر مسئولوهم القمة لتوقيع اتفاق الانضمام للاتحاد، وبهذا سيصبح عدد اعضاء الاتحاد الاوروبي 25 دولة ابتداء من مايو/ أيار من العام المقبل.
عشر دول دخلت الاتحاد مضيفة 75 مليون مواطن اوروبي إلى 450 مليونا ليصبح عدد مواطني الاتحاد الاوروبي 525 مليون انسان، مشكلين بذلك اكبر اقتصاد في العالم يفوق الولايات المتحدة الاميركية.
ولعل ما جرى في اثينا يفسر جزءا مما يجري في العراق ايضا. فالاتحاد الاوروبي بدأ باعتباره سوقا مشتركة في الخمسينات وكان اسمه «السوق الاوروبية المشتركة» ثم تطور في الثمانينات إلى توحيد السوق (وليس فقط توحيد الجمارك كما كان سابقا) وبذلك تغير الاسم إلى «المجموعة الاوروبية» في الثمانينات.
ثم تغير الاسم في التسعينات الى «الاتحاد الاوروبي» بعد توسيع صلاحيات الاتحاد ليشمل شئونا اخرى غير اقتصادية.
والاتحاد الاوروبي كيان فريد من نوعه في عالم اليوم، وخوف الولايات المتحدة هو ان يتحول هذا الاتحاد من اتحاد اقتصادي - اجتماعي إلى اتحاد اقتصادي - اجتماعي - سياسي - عسكري، كما تطمح إلى ذلك المانيا وفرنسا.
فرنسا والمانيا وحدتا كثيرا من سياساتهما تجاه مستقبل الاتحاد الاوروبي، وتقودان تيارا داخل الاتحاد يدعو إلى إقامة جيش مشترك وتأسيس سياسة خارجية مشتركة.
وعندما يتحقق ما تسعيان اليه - على رغم معارضة بريطانيا - فإن الاتحاد الاوروبي سيكون المنافس الوحيد للولايات المتحدة الاميركية.
ولكن هذا الطريق صعب جدا. فأميركا وحليفتها بريطانيا لديهما امكان تحريك نصف مليون جندي إلى اي مكان في العالم، وبالتالي فرض الرغبة الاميركية التي تتصدر كل شيء عسكريا واستراتيجيا. اما الاتحاد الاوروبي فليست لديه هذه القدرة. واكثر ما توصل إليه الاوروبيون لحد الآن هو تكوين قوات تدخل سريع اوروبية من المتوقع ان تكون جاهزة هذا العام أو العام المقبل قوامها ستون الف مقاتل يتم استخدامهم حسبما يقرره الاتحاد الاوروبي.
ولكن الصعوبة هي في توحيد القرار السياسي والعسكري، فالاتحاد الاوروبي بعيد حاليا عن الحلم الفرنسي - الالماني في هذا الاتجاه. وحينما تصبح للاوروبيين سياسة دفاعية موحدة (وهذا امر ليس بالمستحيل) فسيكون لديهم مفوض اوروبي مخول بصلاحيات يتحدث فيها عن جميع الدول الاوروبية وسيحصل ما يجري حاليا - مثلا - بالنسبة إلى الشئون الاقتصادية. فحاليا يتوجه المفوض الاوروبي المختص بشئون الزراعة مثلا للتفاوض مع وزير الزراعة الاميركي ويتكلم عن جميع اعضاء الاتحاد الاوروبي ويصبح ما يتوصل إليه معه ملزما لجميع اعضاء الاتحاد.
اميركا تعلم ان هذه الوحدة في المجالات الزراعية والاقتصادية والهجرة وغيرها خطرة جدا فيما لو تحولت إلى الجانبين السياسي والعسكري. فحينها ستنتهي الحاجة إلى حلف الناتو الذي تتزعمه اميركا ويضم الاعضاء المهمين في الاتحاد الاوروبي وعددا من الدول الاخرى. وفيما لو تكونت قيادة عسكرية اوروبية وانتشرت في انحاء العالم فإن ذلك سيكون منافسا للقيادات الاميركية المركزية، الوسطى وغير الوسطى.
اميركا لديها حسابات كثيرة، وتحالفها مع بعض الدول الاوروبية مثل بريطانيا وحتى اسبانيا وايطاليا، يقصد منه منع تحول هذا الاتحاد إلى الشئون السياسية والعسكرية.
هناك من يفسر وقوف ايطاليا واسبانيا إلى جانب اميركا بأن هاتين الدولتين تشعران ان دورهما ثانوي في الشأن الاوروبي ولا يؤخذ الا بالرأي الفرنسي - الالماني. وان الدولة الوحيدة التي لديها قوة داخل الاتحاد الاوروبي مماثلة للفرنسيين والالمان هي بريطانيا، وبريطانيا تعارض بشدة اي تحويل للاتحاد إلى الشأنين السياسي والعسكري.
ولذلك فإن ايطاليا واسبانيا انحازتا لاميركا في الحرب على العراق مخالفتين بذلك الاجماع الاوروبي الذي تقوده كل من فرنسا والمانيا.
الاوروبيون يعلمون جميع هذا المشكلات، ولذلك فإنهم يَشْرعون حاليا في كتابة دستور جديد للاتحاد الاوروبي، ويرأس عملية كتابة الدستور الرئيس الفرنسي الاسبق جيسكار ديستان.
ومن المتوقع اكمال الدستور الجديد في شهر يونيو/ حزيران المقبل، كما من المتوقع ان يتم تعزيز فاعلية الاتحاد الاوروبي في المجالات غير الاقتصادية بعد ان اثبت الاتحاد انه افضل وحدة اقتصادية على مستوى العالم وان توحيد اسواقه وفر لمواطني هذه الدول مستوى معيشة مرتفعا ومستديما.
الاوروبيون وحدوا عملتهم، واصبحت اكثرية هذه البلدان تتداول عملة «اليورو» التي أصبحت اقوى من الدولار لأول مرة منذ انشائها، واصبح «اليورو» العملة المنافسة للدولار. والاميركان لا يقبلون بهذه المنافسة، ولذلك فإن سيطرتهم على الشرق الاوسط ستمنع الاوروبيين من مد نفوذهم العالمي وسيستطيعون التحكم في المجال الذي من الممكن ان يتحرك الاوروبيون من خلاله مستقبلا.
شهر ابريل/ نسيان من العام 2003 شهد احتلال اميركا العراق، وهو حدث سيغير الشرق الاوسط، وشهد هذا الشهر ايضا توسع الاتحاد الاوروبي من 15 دولة إلى 25 دولة، وهو حدث له ابعاده الدولية مستقبلا؛ وربما هذا ما دفع الاميركان لزيادة تصميمهم على دخول الشرق الاوسط عسكريا واقامة الحكم الذي يختارون، ومن ثم مواجهة خطر المنافسة الاوروبية المستقبلية
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 224 - الخميس 17 أبريل 2003م الموافق 14 صفر 1424هـ