ربما كانت أكثر المفاهيم تعقيدا وحساسية هي تلك المتعلقة بموضوع حقوق الإنسان، إذ ان هناك ترابطا وثيقا بين مفهوم «الحرية» و«الحقوق». فهناك من يفسر «الحرية» بأنها التحرر من كل القيود، وأن الشخص يجب ألا يخضع لأي ضغط خارجي لإجباره على التصرف بطريقة معينة، ويرتبط بهذا المعنى مفهوم «الاختيار».
الحقوق الطبيعية
الحقوق الطبيعية (وتسمى ايضا الحقوق الاساسية) هي أمور مستوجبة للإنسان، وتعريف ما هو مستوجب للإنسان بصورة «طبيعية» هو من أعقد الموضوعات الفلسفية بين مختلف الأيديولوجيات. فهناك الفلسفة التي تقول ان للإنسان حقوقا «طبيعية» مرتبطة بكونه إنسانا، وان هذه الحقوق غير قابلة للتنازل عنها «INALIENABLE RIGHTS» ، وهذه أيضا تسمى حقوقا أساسية «BASIC RIGHTS» . وقد حدد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثالثة الحقوق الأساسية بأنها «الحق في الحياة وفي الحرية وفي الأمان الشخصي».
من الناحية التاريخية، فإن الأفكار الرئيسية في منظومة حقوقا الإنسان مثل حرية الكلمة والتعبير عن الرأي، حرية الاجتماع والسواسية، إلخ، تعتبر من تلك المفاهيم التي لا يمكن لأيديولوجية دينية أو غير دينية عدم الاكتراث بها.
فلو رجعنا إلى عناوين رئيسية في الفكر الإسلامي نراها تتفق مع المبادئ المطروحة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. مثلا: «الناس سواسية كأسنان المشط»، «لا فرق لعربي على أعجمي ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى»، «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا»، «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»، وهذا تحريم كامل لجميع أنواع التعذيب، «لا دين لمن دان بولاية إمام جائر»، «ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع»، «لا إكراه في الدين»، «شر الناس يوم القيامة عالم لا ينتفع به»، «اطلب العلم من المهد إلى اللحد».
فالإسلام يشترك مع الطروحات الأخرى في تقرير الحقوق «الأساسية» للإنسان، لأن الإسلام سبق غيره في اعتبار «كرامة الإنسان» أساسا من أسس الحياة، «ولقد كرمنا بني آدم» (الإسراء: 70). والكرامة تعتبر حقا أساسيا تقره جميع مواثيق حقوق الإنسان، التي تقول: الإنسان يولد حرا، كريما ومتساويا مع أخيه الإنسان بغض النظر عن أي اعتبار آخر، كاللون واللغة وغيرهما.
الحقوق الأساسية يشار إليها بالحقوق «الطبيعية» لارتباطها بالمدرسة القائلة بالقانون الطبيعي (الفطرة الانسانية المرتبطة بالطبيعة). والقانون الطبيعي يعني النظام الذي تتجه إليه فطرة الإنسان لضمان الحقوق والواجبات الضرورية والمطلوبة لتحقيق الغايات الإنسانية. والقائلون بالقانون الطبيعي يقولون ان الإنسان إذا لم يتعرض لضغوط أو إكراه فإنه سيتجه إلى تحقيق كرامته وسعادته.
مفهوم القانون الطبيعي مفهوم قديم جدا، قبل المسيحية وبعد المسيحية وأشار إليه الإسلام، عند الحديث عن «الفطرة». وعندما ظهر مفكرو النهضة الأوروبية اعتمدوا في كثير من أفكارهم على مفاهيم القانون الطبيعي. والحديث عن الحقوق الطبيعية ينطلق من هذا المعنى. يقول سيد محمد باقر الصدر في مقالة كتبها في منتصف الستينات بعنوان «رسالتنا إنسانية عالمية» مفسرا الآية الكريمة: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيام ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (الروم/30)... يقول ما نصه «فالإسلام هو دين الفطرة الإنسانية وهو يتجاوب مع هذه الفطرة، فلا يحرفها ولا ينكرها وإنما يعترف بها. والإسلام هو دين الكرامة البشرية ولقد كرمنا بني آدم». ويقول الصدر ان «الإنسان الأوروبي المعاصر» اضطر إلى رفض المسيحية ليتحرر من النظرة المسيحية التي اتخذت من عالم الطبيعة موقفا سلبيا. ويشير السيد الصدر إلى أن ردة فعل الإنسان الأوروبي دفعته إلى إقامة أنظمة فكرية لتصحيح ذلك الاعتقاد المسيحي، ولكنها (أي هذه النظم الفكرية الحديثة) قد همشت الجانب الروحي من الإنسان.
الحقوق المدنية
انطلاقا من «الحقوق الأساسية» تنبثق حقوق «مدنية» أو «تشريعية». وهذه الحقوق المدنية المؤسسة على مفاهيم الحقوق الطبيعية تم تلخيص معظم ما اتفقت عليه دول العالم منها في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» للعام 1948، وفي «إعلان فيينا للعام 1993». والإعلان العالمي يحتوي على 30 مادة، تضمنت بنوده حق كل إنسان من دون ما تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو النوع في الحماية القانونية واللجوء إلى المحاكم العادلة وحرية التنقل واختيار محل إقامته وحقه في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده وفي العودة إلى بلده وحقه في التماس ملجأ في بلدان أخرى خلاصا من الاضطهاد وحقه في حرية الفكر والعقيدة والتمتع بحرية الرأي والتعبير والاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية، وحقه في المشاركة في إدارة شئون بلاده وفي الحياة الثقافية وحقه في الضمان الاجتماعي والعمل بشروط عادلة. وحرّم الإعلان العالمي الرق وتجارة الرقيق والاستعباد وحظر إخضاع الأفراد للتعذيب والمعاملة غير الإنسانية والحاطة بالكرامة وحظر الاعتقال أو النفي التعسفي.
غير أن مواد الإعلان العالمي لم تكن مفصلة، ولهذا تم تطوير عدد من الاتفاقات والعهود الدولية وتم عرضها على الدول ومطالبتها بتوقيعها لكي تتمكن أجهزة الأمم المتحدة من محاسبة الدول رسميا بحسب ما تتعهد به وتوقعه. والمعاهدات المهمة هي: «العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية»، «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية»، «اتفاق منع التعذيب»، «اتفاق منع التمييز ضد المرأة»، «اتفاق حماية الطفل»، «اتفاق منع جميع أشكال التمييز العنصري».
الدول الإسلامية جميعها وافقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - 1948 (بحكم عضويتها في الأمم المتحدة) وكذلك فقد وقعت جميع الدول الإسلامية إعلان فيينا للعام 1993، الذي أكد «عالمية حقوق الإنسان». فعالمية حقوق الإنسان، مفهوم مهم جدا، فقد استخلصت البشرية دروسا من الحروب والمعاناة التي ترجع في جذورها إلى حرمان الإنسان أخيه الإنسان من بعض الحقوق الأساسية والمدنية. والعالمية تعني أن الحقوق الواردة في الإعلان العالمي والمواثيق الدولية هي حقوق لكل البشر من دون استثناء.
في العام 1993، وأثناء انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا ثار حوار عن حقوق «المجتمع» أولا، أو حقوق «الفرد» أولا. وقد طرحت المناقشات أفكارا مستمدة من الثقافات المختلفة عن أهمية الحرية الفردية في مقابل أهمية تنمية المجتمع أولا. ونتج عن ذلك الحوار إضافة حق «التنمية» باعتباره أحد الحقوق الإنسانية - الاساسية للمجتمعات، ولكن على ألا تكون التنمية الاقتصادية - الاجتماعية على حساب حقوق الإنسان الفردية.
وعلى رغم توقيع إعلان فيينا المهم جدا، فإن الحكومات بدأت تحصن نفسها من خلال القول بأن لها «سيادة على أراضيها»، وأنها لن تسمح لأي طرف عالمي بالتدخل في شئونها بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان. واستخدمت بعض الدول أمثلة عن «الانتقائية» الأميركية/الغربية في التعامل مع موضوعات انتهاك حقوق الإنسان. والحقيقة إن الضحية من «الاحتجاجات» الحكومية «والانتقائية» هي حقوق الإنسان ذاتها. ولذلك فإن المنظمات غير الحكومية أصبح دورها أكثر فعالية بالإضافة إلى البرلمانات الحرة التي لا تخضع إلى الرقابة الحكومية، كلها أصبحت أكثر فعالية في التصدي لموضوع حقوق الإنسان.
هناك موضوعات حرجة وحقيقية ما زالت موضوع نقاش غير محسوم على المستوى العالمي. وهذه الموضوعات لا يمكن معالجتها من خلال غض النظر عنها. فهناك موضوعات تتعلق بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل على جميع الأصعدة، وهناك موضوعات تؤثر على مفاهيم ما هو صحيح وما هو خطأ بالنسبة إلى العلاقات الجنسية. غير أن النقطة المهمة هنا، أن الداعين إلى الأمر ما لا يستطيعون فرضه على الآخرين على المستوى البعيد إلا إذا أصبح هذا الأمر «عالميا»، بمعنى أن توقعه جميع دول العالم.
هناك الآن عمل دولي حثيث يطالب جميع الدول بتفعيل الإعلان العالمي وجميع المواثيق والعهود والمعاهدات الدولية. وهذه المواثيق تنقسم الى قسمين في القانون الدولي، هما: «القانون الدولي لحقوق الإنسان» و«القانون الدولي للتعامل الإنساني (Humanitarian)». و هذان القانونان الدوليان يوفران قوة قانونية دولية للدفاع عن حقوق الإنسان وعن التعامل الانساني (بالنسبة إلى أسرى الحرب والقضايا المشابهة). وعندما يكتمل انشاء محكمة الجنايات الدولية (التي ستعتمد على هذين القانونين وغيرهما) فلربما ينفسح المجال لظهور «المواطن العالمي»(Citizen of the World) ، وهو ذلك الإنسان الذي له حقوق معترف بها ولها حماية عالمية، والدولة الوطنية لا يمكنها انتهاك حقوق مواطنيها بحجة حماية سيادتها او استقرارها.
كثير من الدول التي تخشى انتشار حقوق الإنسان تسعى حاليا إلى القول ان لها الحق في مواجهة «الإرهاب». ومفهوم الإرهاب يتم تعميمه على كل شخص معارض سواء كانت معارضته سلمية أم غير ذلك. وتحاول كثير من الدول التركيز على حقها في الرد بقوة على كل شخص يعارضها. غير أن المجال الآن أصبح «عالميا» في الحوار و«عالميا» في الصياغة. وموضوع حقوق الإنسان وتفاصيله لم تنته ولن تنتهي. فهناك حقوق كثيرة تنتظر الاعتراف بها على مستوى دولي وكثير من هذه الحقوق تدخل يوما بعد يوم على الساحة الدولية ويعترف بها
العدد 224 - الخميس 17 أبريل 2003م الموافق 14 صفر 1424هـ