سقطت بغداد، لكن هذا ليس الأول، فقد سبقه سقوط على يد المغول القادمين من أواسط آسيا، إلا ان هناك فرقا بين الغزو المغولي القائم على القبائل الرعوية، والغزو الاميركي القائم على اساس المصالح التوسعية المتحالفة مع التكنولوجيا والعلم، بهدف الاستئثار بمقدرات الشعوب، ولا يخفى ان مقدرات بلد مثل العراق لابد ان تثير شهية اقوى دولة امبريالية في العالم.
سقوط بغداد في العام 1258 على ايدي المغول كان مدويا، اذ ترتبت على هذا السقوط نتائج بالغة الأثر ربما لانزال نعيشها. فمنذ السقوط الأول لم تقم للعرب قائمة على رغم المحاولات المتعددة لإعادة العرب الى مركز التاريخ بدلا من هوامشه.
والآن وبعد مرور حوالي 745 عاما بين الغزو المغولي والغزو الاميركي، ها هي تتكرر مأساة بغداد، وثانيا مأساة العرب من دون استثناء، بحيث يعودون مرة اخرى الى هامش التاريخ، ويصلون انطلاقا من بغداد الى ادنى درجات الذل وقلة الحيلة في تقرير مصيرهم، أو على الأقل انقاذ ما يمكن انقاذه.
لكن - وللأسف الشديد - ان المسألة في سقوط بغداد فيما مضى وكما هو حاصل الآن لا ترتبط بالغزاة سواء كانوا مغولا رعاة او اميركان امبرياليين، انما ترتبط المسألة بالأنظمة التي حكمت بغداد، او بتعبير اصح، بحكام بغداد، بحكام العراق على امتداد التاريخ.
فعندما سقطت بغداد امام ضربات المغول، كانت دولة الخلافة قد وصلت إلى ذروة الفساد والاستبداد، وأصبحت في واد والشعب في واد آخر، لذلك فإن شعب بغداد/العراق لم يرحب بالمغول ولم يأسف على سقوط دولة الخلافة فهي دولة لا تمثله، بل بقي لا مباليا او متفرجا. ليس لأنه لا يحب وطنه، بل لأن حكامه في تلك الفترة قد همشوه وأذلوه الى اقصى درجات الذل قبل ان يذله الغزاة، ومن خلال هذا الواقع، فإن ذل الغزاة لن يكون أكثر من ذل حكامه.
وهكذا سقطت بغداد لأن حكامها لم يكونوا قادرين على حمايتها، لكنهم بالتأكيد قادرون على قمع وارهاب الشعب، وسقوط الطاغية يعني سقوط البلاد.
في الغزوة الاميركية الاخيرة تكرر التاريخ نفسه تجاه هذه المدينة العظيمة، تجاه هذا البلد الضارب في عمق الحضارة، حتى اننا نستطيع ان نقول «ما اشبه الليلة بالبارحة» لما يحدث للعراق وبغداد فيه بمنزلة القلب.
ولأن حكام بغداد هذه المرة قد اقتفوا آثار حكامها عندما جاء المغول فقد تركوا البلد وهربوا دونما مبرر، حتى ان الاميركيين غير مصدقين، انهم يدخلون بغداد بهذه السهولة في الوقت الذي استعصت فيه عليهم البصرة وام قصر والنجف وكربلاء.
ربما يبدو الأمر محيرا لكننا لا نعتقد ذلك، فالطغاة لا يهمهم سوى انفسهم، ولا يهمهم ان تسقط عواصمهم او مدن بلدهم على رغم الشعارات التي يحملونها او يطنطنون بها ليل نهار.
هكذا ذاب كل شيء بما في ذلك طغاة بغداد من دون ان يقفوا ولو للحظة واحدة امام الزحف الاميركي القادم الى بغداد، اذ سلموا كل شيء، العباد والبلاد وهربوا بجلودهم، بينما كان من الاجمل لهم ان يقاوموا حتى الرمق الأخير ويسقطوا واحدا تلو الآخر وهم وقوف، لا ان يتركوا بغداد تزداد ذلا على ذلها الذي ذاقته طوال تاريخها من الحكام السابقين، الذين تركوها إلى الاميركان.
بغداد سقطت والدائرة تأتي على بقية العواصم العربية عاجلا أم آجلا، ومشكلة بغداد لا تكمن في الغزاة القادمين، بل في من حكموها، كما هي مشكلة العواصم العربية
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 223 - الأربعاء 16 أبريل 2003م الموافق 13 صفر 1424هـ