لست من الدعاة الرافضين لنظرية الحزب، فنظام الحزب أو المؤسسة إذا ما أصبحت واقعية وتتحرك وفق برنامج ممنهج تسلسلي قائم على أجندة واقعية، فإنها في نهاية المطاف تصل إلى مرادها، وتحقق أهدافها، ولكن ما هو مرفوض هو أن يتحول الإسلام الحزبي ـ إن صح التعبير ـ إلى حزبي أولا وإسلامي ثانيا...
وهذه إشكالية سقطت فيها الحركة الإسلامية ممثلة بالتنظيمات والأحزاب الإسلامية... كما سقطت فيها أكثر الأحزاب العربية من اشتراكية أو علمانية.
إشكالية التعصب لكل ما يتبناه الحزب أو المؤسسة أو الجمعية حتى لو كان خطأ، إشكالية بالغة التعقيد، وتكاد تكون هذه الإشكالية اللوثة التي مازالت عالقة في حركاتنا الإسلامية. من الصعب جدا أن تجد من «التكتل» ذاته أناسا يحملون ثقافة النقد الذاتي أو الرؤية التصحيحية لأي خطأ يقع... وحتى من يمتلك وعيا نقديا فإنه لا يجأر به مخافة أن يهمش أو يقصى، إما بسلطان الفتاوى أو باتخاذ أساليب خفية «القتل الأدبي» أو أن يوضع في خانة الخيانة أو الخروج عن الملة ـ طبعا السياسية ـ ولكن على رغم ذلك بدأت هناك محاولات ـ وإن كانت متواضعة ـ تجأر بالنقد المعرفي في محاولات مخلصة للارتقاء بالحركة إلى حيث الأممية في التطلع، والخروج من ذات الصوامع الحزبية الضيقة للانفتاح إلى حيث الواقعية والموضوعية بعيدا عن تهميش الفكر أو محاصرة الفعل على الفئة أو التجمع.
الفكر القطري ذو الرؤية المحدودة التي لا تتجاوز حدود الجماعة هو فكر عادة ما يموت في العتمة وينتهي إلى فشل ذريع، وعادة ما يكون أسير الرؤى الضيقة التي لا تتجاوز الإملاء الحزبي والأجندة الخاصة.
ولعل من سوءات عدم فتح نوافذ الحزب على الآخرين والتشرنق على الذات؛ أنه عادة ما يسقط ضحية نظرية «التابو» فيصبح ما بداخل الحزب مقدسا وما هو خارج الحزب مدنسا. وهذه هي مشكلة حركاتنا السياسية... إذ تتحول جماعاتها ـ وخصوصا مع غياب الفكر الناقد ـ إلى جماعات تنتهج فكرا عصابيا فتصبح كل جماعة لها أجندتها وأدبياتها و«خصوصيتها»، حتى تتولد مع الأيام لكل جماعة حال نفسية حزبية تجاه الآخر، وحتى من الصنف والبيت ذاتهما. وذلك بسبب تلك التربية وتلك التعبئة الفكرية المضادة لكل ما هو آخر، فيصبح كل ما لدى الآخر مدنس حتى لو كان هذا الآخر هو من الوعي الايديولوجي ذاته الذي يحمله الحزب ذاته. طبعا تركة الخلافات الوهمية والهامشية للاختلافات التي علقت بتاريخ الحركات تقدم وتعطى عبر مناهج تربوية حزبية، وحلقات تدريسية لدى شباب كل جماعة... فيحمل أبناء هذا التجمع النظرة الفوقية أو الاستعلائية ذاتها ـ التي هي في كثير من الأحيان عبارة عن توهمات وهوامات نفسية أقرب من أن تكون مبتنية على رؤية علمية ـ ويتكرر في نهاية المطاف الخطأ ذاته والعصاب ذاته، وتعاد المشكلة ذاتها بين أبناء الحركات، فتفرخ الحركة متعصبين متزمتين تجاه كل ما هو «آخر».. لهذا على الحركة الإسلامية أن تعيد النظر في تلك الأدبيات التي تقدمها إلى أبنائها وخصوصا في أدبية التعاطي مع الآخر من الحركة ذاتها... لهذا الحركة بحاجة إلى ثقافة أخرى هي ثقافة التسامح والانفتاح على بعضها، بعيدا عن القيود الفكرية القائمة على أفكار جاهزة وقطعية ابتنيت في سنين الاختلاف على رؤى نفسية أقرب منها رؤى فكرية.
يجب على الحركة أن تخرج من التعصب للجماعة الخاصة ذاته، وتمد الجسور بين قواعدها وتركز عبر خطابها على جميع النقاط المشتركة، وأن تعتمد في ذلك على عقول استراتيجية تحمل بعدا كونيا وأفقا أمميا يرتكز على بنى فكرية ناضجة خالصة من التعصب الفئوي، حتى تستطيع أن تشكل لها قواعد بعيدة عن التأزم الفكري أو التورم النفسي، فقد تؤهل نفسها للوصول إلى مواقع فاعلة ومتميزة في المحيط السياسي الذي تعمل فيه؛ لأن التجربة أثبتت أن من أسباب ضعف الحركة دخولها في معارك وهمية ضد بعضها سواء على قضايا «التقليد» أو مسائل هامشية عادة ما تزرع في عقل ووعي جمهور الجماعة، في حين لو ان الجمهور سأل نفسه سيجد أن الكثير من هذه المسائل، مسائل عقيمة وقديمة ما عادت تنفع الجماعة، وليست ذات مردود نفعي ولا دنيوي ولا أخروي.
ولعل من إشكاليات التأطر الانتمائي الضيق انه يربي الناشئة على قواعد فئوية خاطئة عادة ما تقوم على قاعدة «سلم نفسك أولا واهمس لنا برأيك ثانيا»... وهذا خطأ كبير مازال يحتاج إلى علاج في التربية الفئوية... وهو تسليم العقل والروح وكل ما يملكه هذا النشء إلى الطرف الآخر من دون أن يكون له حق النقاش أو التساؤل، وحق ابداء الرأي أو النقد. فقط يورط هذا النشء في فتن أو تحزبات أو تورطات مؤدلجة خاصة أو معارك غير متكافئة أو وهمية من دون أن يكون له أي حق في الإفصاح عما في الخاطر. ويتجاهل أصحاب هذا الوعي الفئوي الفارق بين الدين والتنظيم الإسلامي أو الحزبي... ويتجاهلون ان هناك فرقا بين التفسير الإسلامي الذي هو تفسير بشري قابل للخطأ والصواب، وبين الايديولوجية الإسلامية «المعتقد»... أحزابنا الإسلامية وقعت في خطأ الاشتباك والتداخل بين الاثنين، فأصبح من ينقد أداء الحركة أو الخطاب أو المشروع يعد سلفا بالتطاول ليس على التنظيم، بل على الدين، لهذا بقي ناقدو الحركة الإسلامية من الإسلاميين يدعون إلى فك الارتباط بين الدين والحزب. ولذلك بات لزاما الأخذ بعملية النقد التي من خلالها نستطيع أن نطور الوعي الحركي والحزبي إلى وعي أممي منفتح.
يقول خالص جلبي في كتابه القيم «في النقد الذاتي: ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية»: «إن النقد الذاتي حركة ديناميكية حية متطورة نامية، وأداة إنضاج للوعي. إنه أداة نقض مستمرة للوعي، لكي يبقى نشطا وحيا... إنه أداة يقظة للوعي الداخلي وتطهير أخلاقي في مستوى الفرد، وهو بناء أسرة متماسكة، والعيش في جو جماعة صحي وتطهير للوسط السياسي من الارهاب والتسلط وبناء علاقات حسنة بين الجماعات البشرية».
إننا إذا قمنا بنقد ذواتنا بطريقة عصرية حضارية بعيدة عن التّزمت سنلحظ اننا نمتلك إضاءات حضارية بجانبها رؤى سلبية تحتاج إلى معالجة... طبعا كل ذلك يحصل عندما نخرج من واقع الصومعة إلى حيث فتح نوافذ الانفتاح المتزن القائم على أسس الثوابت.
إن الله جعل الإنسان خليفة في الأرض وسلمه مفاتيح الوجود ليصبح رجلا كونيا يخدم تطلعات الإنسان نحو الخير والسلام والسعادة الأبدية التي لا تكون إلى بترسيخ عدالة اجتماعية تقوم على أسس إسلامية صحيحة خارجة على الأطر الشخصانية الضيقة أو الانغلاق.
إذا، فك الارتباط بين الحزب والإسلام مسألة مهمة، فهناك فرق بين الاثنين، فالحزب لا يعني الإسلام... قد يلتقيان ولكن ليس بالضرورة أن يكونا شيئا واحدا.
إن هناك من المفكرين ممن لا يرى أو لا يؤمن بنظرية الحزب، وهو الشيخ الكبير حسن البنا، هناك من نسب ذلك إليه وهناك من نفى، ويبقى للنظرية أنصار ومتحفظون
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 223 - الأربعاء 16 أبريل 2003م الموافق 13 صفر 1424هـ