أنْ تكون عراقيا اليوم يعني أن تكون قمة في اختلاط المشاعر المتناقضة والمتشابكة والمتداخلة، هذا ما يعبّر عنه الكثير ممن تلتقيه من أبناء الشعب العراقي في بلدان عدة في العالم، ومنها إيران. فهم فرحون، حزينون، راضون، غاضبون، موافقون، معارضون، متلقون باسترخاء لقدرٍ خائفون منه في الوقت نفسه ولسان حالهم يقول في الغالب: «ليت ما حصل قد حصل من زمان على أيدينا نحن».
سيدة عراقية تسكن «دولت آباد» وهي ناحية نائية من نواحي طهران الجنوبية نقلت مشاعرها إليّ وهي تلاحق نبأ اختفاء نظام صدام حسين من بغداد عبر شاشات التلفاز بالقول: «منذ 24 عاما حيث غادرت العراق قسرا، وأنا أنتظر يوم سقوط صدام حسين عن طريق انقلاب عسكري أو اغتيال ضابط معارض له أو ثورة شعبية، انتظرت ذلك بفارغ الصبر فلم يحصل ولما بدأت الحرب الأميركية ضد بلادي خفت، وحاولت أن أكون ضدها لكن مشاعر متناقضة حاصرتني، منها ما يقول لي، لعل في الأمر خيرا، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، ولما قد قالوا لنا إنها حرب نظيفة لا تستهدف أهلنا! بل تستهدف الإطاحة بالنظام فقط! تراجعت بعض الشيء عن معارضتها لكن ما إنْ بدأت الحرب وبدأت أنباء المجازر تصل إلى أسماعي حتى صرت أخاف حقا على العراق وأهله وأتعاطف معهم إلى درجة دفعتني إلى حافة التعاطف مع النظام! ظنا مني أنه بدأ يقاتل العدوان بجد، ولكن ما هي إلا أيام حتى استيقظت على أنباء اختفائه «الدراماتيكي»! من دون تفسير واضح أو معلوم!...».
وتتابع السيدة بقلق واضح وعتاب أكثر وضوحا يشمل جميع الأطراف المتحاربة بالقول: «إذا كنتم تريدون أن تعملوا صفقة ما! فلماذا لم تعملوها منذ البداية؟! ومن دون إراقة كل هذه الدماء. أو إذا كنتم تريدونها حرب استعراض عضلات فقط، فلماذا لم تعملوها بطريقتكم الخاصة المعروفة في تخويف الأنظمة وتدمير قدراتها من دون التضحية بالشعب العراقي؟ وأنت أيها النظام الباسل، لو كنت تريد الاختفاء بهذه الطريقة فلماذا لم تسلم منذ البداية بشروط الغزاة؟! وأنتِ أيتها المعارضة إذا كنتِ غير قادرة على إنزال تمثال للرئيس المخلوع من دون الدبابة الأميركية أو عقد اجتماع فوق الأرض «المحررة» من دون إرادتهم فلماذا كل ذلك الصخب الذي صم آذاننا طوال عقود؟
إنهم فرَّقونا ـ أي وزعونا كما هو المعنى باللهجة العراقية ـ مثل خبز العباس أو خبز المستعجل لغايات أنانية خاصة بهم...!».
وخبز العباس أو خبز المستعجل، هو ما ينذره العراقيون من عمل خير يقومون خلاله بتوزيع الخبز المحشو بالجبنة وبعض الخضراوات عندما يستجيب الله دعاءهم.
لكن السيدة العراقية المهجرة الحائرة في مشاعرها المتناقضة قالت وهي تلملم جراحها: «إنهم وزعونا نحن بدل خبز العباس إرضاء لأهوائهم ومصالحهم، فقد ضحى بنا الأميركان من أجل مصالحهم النفطية والحربية، وضحت بنا «المعارضة» التابعة لهم من أجل الوصول السهل إلى السلطة، وضحى بنا نظام صدام للحفاظ على حياته وحياة عائلته والمقربين إليه.
وبالتالي فقد حرمونا حتى فرحة الاحتفال بسقوط الطاغية، بل سرقوها منا، يا ليت الأميركان لم يفعلوها، ويا ليت المعارضة الأصيلة قد نجحت قبل ذلك بفعلها، ويا ليت صدام قد تنحى أو اختفى من دون إراقة دماء!!...» انتهى كلام السيدة المعبر عند هذه الكلمات.
إنه بالمناسبة شعور كل متعاطف حر شريف مع قضية العراق المظلوم، العراق المهدورة كرامته اليوم على يد الأجنبي وطلاب الحروب والجاه والسمعة والتجارة بمصائر الشعوب.
العراق المتروك للقدر المجهول. العراق المشوهة صورته على شاشات التلفاز العالمية، العراق الذي تتلاعب فيه إرادات القوى العظمى، العراق المفتوحة أبواب الاحتمالات فيه على المجهول من العنف والعنف المضاد بعد كل الذي حصل فيه.
عندما نبهنا قبل أشهر من بدء الحرب إلى أخطار «عسكرة» العمل السياسي المعارض. وعندما نبهنا مبكرا إلى أخطار الاتكاء على الأجنبي في حل معادلات الداخل. وعندما نبهنا إلى أخطار اللعب بأوراق المطالبات «الطائفية» أو «العرقية» بالطريقة الساذجة التي قدمت فيها، قيل لنا يومها إنك تخدش كرامة العسكر ـ الذين اجتمعوا في لندن طبعا ـ وقيل لنا إنك تتهم المعارضة فيما هي براء منه! وقيل لنا إنك لا تفقه ببواطن الأمور وعميقها!
اليوم يحكم العالم على ما قلناه وما قالوه وفعلوه. فمن هو الذي أهان الجندي والضابط العراقي الشريف وأوصله إلى ما أوصله إليه بل وأهان معه الكثير من أبناء العراق عندما جعلهم وكأنهم «فقراء ومعوزين» بحاجة إلى ماء وغذاء ودواء لا سمح الله، واليوم يرى العالم بأم عينه من سلّم مفاتيح مقدرات الوطن العراقي الذبيح إلى الأجنبي بعد أن وزع شعبه مثل خبز العباس، وسرق منه حتى فرحة سقوط الطاغية، بسذاجته السياسية
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 223 - الأربعاء 16 أبريل 2003م الموافق 13 صفر 1424هـ