أقصد بالقراءة - هنا - ما سيطرحه هذا المقال من آراء وطروحات خطيرة ومتوقعة لحال الشارع العربي وعلاقة ذلك الشارع بالنظام السياسي العربي اذا ما أقدمت الولايات المتحدة على غزو العراق بعيدا عن مظلة الأمم المتحدة.
أما المقصود بالانفلات الجماهيري فهو مرحلة خروج هذا الشارع عن حال التظاهر السلمي او رفع الهتافات المعادية للولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء داخل او خارج المنظومة العربية - في ضوء حملتها الموجهة إلى العراق واستعداداتها العسكرية لغزوه تمهيدا لتغيير خريطة الشرق الأوسط: سياسيا، واقتصاديا (التحكم في منظومة النفط)، وثقافيا (تحقيق المقاصد الثقافية للعولمة) وفق الرؤية الاميركية، واستراتيجيا (تحريك ميزان القوى في المنطقة باتجاه «اسرائيل» وعلى حساب الدول المحيطة) - خروج هذا الشارع الى حال العنف واستخدام القوة، بل وربما استهداف قيادات بعينها يراها الشارع العربي - كل في موقعه - قيادات عميلة تسعى فقط إلى تحقيق اهدافها الفردية على حساب المقاصد الجمعية لشعوبها...
أما المقصود بـ «ما قبل القراءة» فهي تلك القراءات التي سيفرزها الشارع العربي اثناء اندلاع الحرب على العراق، تلك القراءة التي ستفرز معالم ربما يصعب التكهن بها الآن.
لقد تعرت الأنظمة العربية تماما امام شعوبها وجاءت الازمة العراقية وما افرزته من متغيرات لتؤكد هذا التعري وتزيد من أزمة الثقة بين الشعوب العربية وأنظمتها السياسية بعدما عجز الاعلام الرسمي العربي عن تبرير حال الصمت المشوب ببعض المظاهرات التي جاءت فعلا قصديا في احدى الدول العربية عندما خرجت تلك المظاهرات تحت مظلة الحزب الحاكم (ولو قلت الحزب فقط من دون ذكر كلمة الحاكم لكان المقصود هو الحزب الحاكم ايضا، اذ ان بقية الاحزاب الموجودة في هذا البلد تلعب دور الكومبارس او ان شئت قل بطلا من ورق لا واقع له ولا وجود)، هذه المظاهرات التي حرص السيد أمين سياسات الحزب نجل السيد الرئيس ان يكون في مقدمتها لتأتي صورته على شاشة التلفزة فيما يوحي بنوع من الدعاية المقصودة التي تروج لصاحبها وتمهد له عرش القلوب التي لا تعي قبل التمهيد له بعرش أبيه رئيس دولة المؤسسات (على حد تعبيرنا نحن المثقفين بالأجر، الذين نضحك على انفسنا) ويأتي ذلك التمهيد ليحدث ما حدث في سورية والاردن، «ومن لا يقرأ التاريخ يجازف بتكراره مرة اخرى».
والغريب أن هذه المظاهرات جاءت بعد ان تظاهر الشارع الاوروبي بمئات الآلاف فيما رسخ لدينا ان هناك ايحاء من هذا الشارع الاوروبي ومن العم «سام» بمشروعية التظاهر بعض الشيء لتهدئة الشعب (وان شئت قل للضحك على الشعب الذي تعوّد ان تضحك عليه قلة من «الارجوزات» التي ينصب دورها في التصفيق بجوار البطل وللبطل حفاظا على استمرارية هذا الدور).
ان من اسباب عجز الاعلام الحكومي العربي عن تبرير موقفه العاجز او مواقفه العاجزة من الازمة العراقية وما سبقها من ازمات، سببين مهمين أولهما مهد الطريق لثانيهما:
السبب الاول: هو ظهور برامج الحوار والرأي الحر عبر عدد من الفضائيات العربية ومواقع الانترنت التي يمارس فيها فعل الكتابة بحري بعيدا نسبيا عن سياط الرقابة المسلطة على وسائل الاعلام الورقية والقنوات التلفزيونية الحكومية التي ضللت ومازالت تضلل الوعي الجماهيري بنسبة 99 في المئة (يمكن تأويل تلك النسبة وفق عملية تعدد التلقي كما في النقد الادبي والقنوات الخاصة ليست بعيدة عن تلك السياط في كل الدول العربية على رغم وجود استثناءات صغيرة لهذه القاعدة).
السبب الثاني: هو ارتفاع مؤشر ازمة الثقة في النظم السياسية العربية عن ذي قبل وذلك نتيجة الوعي الجماهيري الآخذ في النمو نتيجة العامل الأول او السبب الأول. فلم يعد الشارع العربي يتلقى من مورد اعلامي واحد في ظل ثورة المعلومات والانترنت، الامر الذي عدد من وحدات التلقي بما يجعل الجماهير أكثر قدرة على نقد الخطاب الاعلامي الرسمي وتحسس مواطن الخديعة فيه عما كانت الامور عليه في السنوات الماضية.
ما سبق يؤكد فرضية ان الجماهير العربية في حال تأهب ضد حال العجز الرسمي العربي أو على الاقل حال سخط ما اقعدها عن التعبير عنه بشكل ظاهر الا امران اولهما غياب المرجعية (اقصد الشخصية الدينية) التي توجه الفعل الجماهيري خلال مرحلة الحرب وبعدها على رغم ما بدر من فتوى عن بعض العلماء بضرورة الجهاد ضد الاميركان في حال اصرار الولايات المتحدة على غزو العراق. هذه المرجعية هي التي ستخرج بالشارع العربي من حال التردد التي يعيشها أي من الفعل السلبي الى الفعل الايجابي.
هذا الخروج ربما يأخذ شكل التظاهر العنيف الذي يرفع شعارات التنديد بالقادة العرب صراحة لا التنديد بأميركا فحسب، الامر الذي ربما يدفع بالانظمة العربية إلى إعمال مبدأ القمع وتبدأ سلسلة العنف والعنف المضاد كما هو متعارف عليه في تاريخ الاضطرابات الأمنية.
ان ما يردده هذا الشارع العربي من مفردات الرفض وعدم القناعة خلال الاحاديث البينية، في المقاهي ووسائل المواصلات العامة والأماكن الشعبية، والذي يعكس عدم الرضا عن حال العجز العربي اضافة الى عدم رضا هذا الشارع عن اداء حكوماته ونظمه هذا الاداء... الضعيف الذي تدلل عليه البطالة والرشاوى والمحسوبية والفساد الاداري والتضخم ومتواليات العجز المستمر في موازين المدفوعات وذوبان الطبقة المتوسطة والتباين الواضح بين من يسكنون القصور ومن يسكنون القبور في بعض الدول العربية - ربما تتحول مفردات الرفض هذه الى عمل عنيف لم تقدر له الانظمة العربية إذ ليس ثمة مسئول عربي يستطيع قراءة الشارع العربي بدقة اذ لا يجرؤ هذا المسئول الكبير في الحكومة او ذلك على ارتياد الاماكن الشعبية لقياس مؤشرات الرأي العام بوضوح وموضوعية وهذا ما يعكس حال عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين: المسئول والمواطن.
وهنا نؤكد ان تلك الجماهير اذا ما تحركت ضد حكامها فلن يكون الغزو الاميركي للعراق إلا مقدمة لتفريغ شحنة السخط الجماهيري التي تكونت لدى هذه الجماهير عبر متواليات الكبت والفساد الاخلاقي والاداري والسياسي المتراكم بأشكال متفاوتة في الدول العربية وهذا ما تؤمن به الولايات المتحدة ان الجماهير العربية تتوق الى لحظة ديمقراطية حقيقية تتلاشى معها نسبة الـ 99 في المئة المتعارف عليها، ما دفع الاميركان الى محاولة تحييد الفعل الجماهيري العربي تجاه الغزو الاميركي المزمع للعراق عن طريق التلويح بورقة «دمقرطة» الانظمة العربية وكأنها تريد ان تقول للشعوب العربية آن لكم ان تحققوا حلمكم في انتخابات حقيقية عامة ورئاسية من دون تزوير، وحلمكم في تجربة حزبية جديدة تصبو اليها مآربكم.
لقد نجحت الانظمة العربية حتى الآن في تقويض حدة السخط الجماهيري من خلال الرقابة المحكمة للخطاب الاسلامي وخصوصا في خطب الجمعة وكذلك من خلال تقويض حركة الجماعات الاسلامية الاقوى تأثيرا في الوجدان الشعبي ولكن ماذا لو التقت هذه الجماهير بعض رجال الدين ومنظري الجماعات الاسلامية من خارج المؤسسة الحكومية وبدا «اوكازيون» الفتاوى الذي ستجري فيه التخفيضات المريحة على كل فتوى تسير ضد مصلحة السلطة والنظام السياسي؟
ان ما يؤكد احتمالات هذا الانفلات الجماهيري هو ايمان تلك الجماهير بحال العطب السياسي الذي تعاني منه الانظمة السياسية العربية وعدم قدرة هذه الانظمة على التأثير الفاعل في الحوادث الدولية الخطيرة مثل الازمة العراقية وتداعياتها ومن قبلها قضية فلسطين والمجازر الشارونية المستمرة للشعب الفلسطيني. هذا بالاضافة الى ايمان الشارع العربي بفساد رموز بعينها في بعض الانظمة، اذ يردد الشارع اسماءهم باستمرار في الاحاديث البينية، هذه الرموز التي مازالت في حجر النظام على رغم كل محاولات التجديد الحكومي التي جرت ومازالت تجري في دول بعينها مثل مصر وعلى رغم اقالة بعض الرموز التي كانت تتمتع بحضور كبير في الوجدان الشعبي.
اخيرا، ربما يختلف معي البعض في ان الرأي العام العربي ستكون له أهمية في المرحلة المقبلة (وهذا ما اتوقعه) ولمن يختلف معي الحق في هذا الاختلاف، ولكن ليس من حقه ان يصادر املا لدى كاتب المقال عززته بعض شواهد المرحلة الحالية. وليس محاولات قيام بعض الانظمة برعاية المظاهرات الشعبية إلا محاولات يائسة لخداع تلك الجماهير وحفظ ماء وجه الانظمة السياسية العربية
العدد 222 - الثلثاء 15 أبريل 2003م الموافق 12 صفر 1424هـ