العدد 222 - الثلثاء 15 أبريل 2003م الموافق 12 صفر 1424هـ

بغداد: انكسار مفتوح على انكسارات

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

انهيار بغداد المذهل، بسرعته وسهولته، يأخذ أبعاده الخطيرة ليس من السقوط المباغت لنظام صدام غير المأسوف عليه، بل من كونه حالة انكسار مدوٍ للعراق وأمته، مفتوح على انكسارات متتالية؛ ما لم تقدر بلاد الرافدين على استيعاب الصدمة والعمل على استرجاع ذاتها المسلوبة، وما لم تقوَ المنطقة على الدخول في عملية نفض وترميم لواقعها المهترئ الذي لم ولن ينتج غير الهزائم المتناسلة عن بعضها بعضا وحتى إشعار آخر.

اللحظة الراهنة ثقيلة وقاسية. خليطها مربك. يتجاور فيها الأمل مع الألم والقلق. من جهة انفتح باب فرج للعراق، ومن جهة ثانية فرض عليه الدخول في نفق مظلم. تخلّص من استبداد الطاغية، ليرزح فورا تحت نير الاحتلال وكوابيسه. بالاحرى هل هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها المنطقة مثل هذه الهزيمة؟ وبالمناسبة هل من نهاية لهذا المسلسل، أم أن المنطقة باتت مدمنة على الهزائم التي لم تعد لديها مشكلة في بلعها وهضمها؟ ثم هل بات قدر هذه المنطقة ألا تقوى على الاستمرار في أية مواجهة أو حرب أكثر من عدة أيام؟ هل في الأمر مصادفة أم أن هناك أعطابا أساسية لا تسمح بغير هذه الحصيلة؟ متى تتوافر لديها المناعة ولو بالحد الأدنى، بحيث لا تعود لقمة سائغة وأرضا مستباحة، تارة لـ «إسرائيل» وتارة أخرى لأميركا؟ وخصوصا أن هزيمة العراق بهذا الشكل لابد أن تزيد من شهية فريق الضواري في واشنطن، للانقضاض على المزيد من فرائسه التالية، التي يضعها على لائحة الشطب. ولم يكن من غير مدلول أن يتعمد أمس وزير الدفاع رامسفيلد الإشارة مع التهديد المبطن، إلى سورية بزعم أنها تساعد في هروب القيادات العراقية، وكأن في الأمر بداية تركيب مشكلة مفتعلة مع دمشق تؤدي إلى مواجهة معها، بعد بغداد.

العدوان الأميركي، الذي لم تنته فصوله بعد، تحت نير استعمار مباشر مستبد، في زمن لا أثر فيه حتى لبقايا استعمار إلا في منطقتنا. أيام قليلة ويصل إلى بغداد الحاكم العسكري الأميركي ليتولى إدارة البلاد، يساعده باعتبارهم موظفين، عدد من القراضايات العراقيين؛ الذين ظهر أحدهم أمس في بلدة الناصرية، بحراسة جنود الغزاة وهو بين شعبه.

طبعا الأسئلة الضاغطة الآن، في ظل حال الذهول والدهشة السائدة، تدور حول وقائع الأيام الأخيرة. وتحديدا يوم 9/4 ما الذي حصل وأدى إلى الاختفاء المفاجئ للنظام العراقي ومفاتيحه وقواته؛ وكأنه أصيب بذبحة قلبية قاتلة أوقفت فيه الحركة من غير إنذار؛ أو كأنه ذاب كالملح في كوب ماء؟ هل كان في الأمر خيانة، صفقة، انقلاب، مؤامرة أو اغتيال؟ كيف يمكن أن تنتهي الأمور بهذه الصورة؟

أسئلة وجيهة وملحة. لكن الأهم من «كيف»؟ هو «لماذا»؟

هنا الإجابة لا تحتاج إلى معرفة المعلومات والتفاصيل والوقائع التي رافقت لحظة السقوط. عودة إلى المقدمات تفسر النتائج. النظام العراقي حكم لثلاثة عقود بمركزية صارمة وقبضة بوليسية مرعبة، أدت إلى سحق المواطن وتدمير الروح الوطنية فيه؛ لاستبدالها بولاء زائف للسلطة يقوم على الخوف أو على تحقيق المصلحة الفردية الضيقة. واكب ذلك أنه زجّ البلاد بمسلسل من الحروب الأهلية والإقليمية العبثية والانتحارية؛ إلى أن وصل العراق إلى حال من الانهاك الذي لا يحتمل. وكان لابد في النهاية من أن يؤدي هذا المزيج من القهر والنزف إلى وضع أجوف محكوم بإعلان إفلاسه. لا فرق كيف تم إعلان هذا الإفلاس. الثابت أنه حصل بصورة درامية يوم 9/4 الذي دخل التاريخ من بابه الأسود. فالأمجاد المزيفة والخطاب المنفوخ بعنفوان أحمق ينخره الفساد، لا يبنيان مناعة وطنية. والحكم القائم على القهر والترهيب الداخلي لا يبني وطنا مقاتلا قادرا على الوقوف في وجه أعدائه. ناهيك بالانتصار عليهم. لذلك لم يكن من المفاجئ، على رغم مرارة المشهد، أن يهرع بعض العراقيين إلى الترحيب بالغزاة في شوارع العاصمة، بعد الانهيار.

لكن ثمة جانبا آخر لهذا الانكسار، فإذا كان النظام العراقي يتحمل المسئولية المباشرة لما حصل باعتباره المتسبب الرئيسي به، فإن الصحيح أيضا هو أن أصل البلاء يكمن في الثقافة السياسية السائدة في المنطقة، التي أنتجته وسمحت باستمراره كل هذه المدة، مع ما صاحبها من عبث وتدمير بالعراق ومحيطه.

نقل العراق من استبداد الدكتاتور إلى استبداد الاستعمار. مواطن بغدادي لخص الوضع على أفضل ما يكون، في رده على سؤال لأحد المراسلين، عندما قال إن الغزو «لم يأتِ للتحرير بل للتخريب». والمؤشرات تتوالى: فالبلد في حال من الاستلاب والإذلال والتسيب الذي تشجعه قوات الاحتلال بعدم تدخلها لوقفه، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تآكل وفوضى وتأسيس لمناخات تصفية الحسابات والانتقام. الأمر الذي يهدد مقومات البلد، ولاسيما بعد انفراط قواته المسلحة؛ والذي يضع ثروته العلمية وعلماءه وموارده النفطية ناهيك عن وحدته الوطنية؛ في مهب الريح. ولا يبدو أن هناك في الأفق القريب أي مخرج لمواجهة هذه التحديات والاستحقاقات إلا من خلال نهوض القوى الوطنية العراقية الحية ولجوئها إلى خيار المقاومة لدحر الاحتلال، بعد سقوط الطغيان. ففي المنطقة تجارب مشجعة من هذا النوع ـ لبنان وغزة والضفة ـ وفي العراق تاريخ عريق في هذا المجال. فاللحظة تاريخية فيها من الفرص بقدر ما فيها من الوجع. ليس فقط بالنسبة إلى العراق بل أيضا بالنسبة إلى المنطقة؛ التي حان وقت إصلاح أمرها. الكرة في ملعبها، فإما أن يكون هذا الزلزال محطة تتحول إلى رافعة نهوض، وإما أن يكون مجرد هزيمة أخرى في متتالية مفتوحة على تفقيس المزيد من الانكسارات

العدد 222 - الثلثاء 15 أبريل 2003م الموافق 12 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً