عندما كنت في الصف الأول الابتدائي، كان لدينا مدرس لتعليم القراءة العربية، وكان المدرس يتسلمنا صباح كل يوم ليلقننا البدائيات المقررة في المنهج الرسمي، ولكنه فاجأنا ذات يوم عندما دخل الصف وطلب منا أن نضع رؤوسنا على الأدراج وأن ننام مدة، ثم يقوم هو بإيقاظنا لكي نتحدث عن الحلم أو الأحلام التي رأيناها في المنام. ولخوفنا من العقاب وضعنا ـ نحن التلاميذ ـ رؤوسنا، ولكننا بدلا من أن ننام، بدأنا نفكر في قصة معينة نقولها عندما تنتهي فرصة «النوم» الدراسية. وهكذا كان، وقف كل واحد منا يروي قصة ما رآه في الحلم، ويستمر استعراض الأحلام، بينما كان المدرس جالسا غير آبه بما نقول. وحمدنا الله على أن اليوم سار بخير. غير أننا فوجئنا بالطلب نفسه يكرر في الأيام التالية، إذ يأمرنا بأن ننام لكي نستيقظ ونسرد الأحلام التي نراها. كانت الحيرة والخوف من عدم النوم يجتمعان ليمنعا التلميذ حتى من النوم أو التفكير في قصة معينة يقولها عندما يأتي دوره. غير أن أحد التلاميذ وقف (في المرة الثالثة التي طلب منا الأستاذ فيها النوم)، وقال: «لقد حلمت أنك ـ أي المدرس ـ كنت راكبا جملا كبيرا، وأمك خلفك على الجمل أيضا، والجمل يركض بسرعة». اختلط صوت الضحك من التلاميذ مع صوت الضرب الذي حصل عليه التلميذ صاحب الحلم من المدرس الذي انزعج كثيرا من ذكره وذكر والدته بهذه الطريقة. التلميذ المسكين حصل على الضرب ونحن حصلنا على الراحة لأن المدرس لم يكمل سرد الأحلام مع التلاميذ الآخرين، ولم يكرر طلبه لنا حتى نهاية العام الدراسي. من هو التلميذ ومن هو الأستاذ؟ ومن هو الذي يسعى لأن يصبح تلميذا ومن هو الذي يسعى لكي يصبح أستاذا؟ هناك الكثير من الناس من يعتبر نفسه وصل إلى مرحلة «الأستاذية» منذ زمن طويل جدا. فلا ينطق امرؤ بفكرة معينة إلا وتسلم دور «الأستاذية» ليصلّح الفكرة وليوضح للآخر بأنه (أي الشخص الذي تسلم زمام الأستاذية) قد فكر في هذا الموضوع وقد نظر إليه ووجد أن النتيجة «الحتمية» لتلك الفكرة هي كذا وكذا. وما ان يسمع «الأستاذ» عن عمل قام به أحد الأشخاص الذين يعرفهم، وإذا به يسارع لوضع النقاط على الحروف وتثبيت حقيقة تاريخية تقول إنه (أي الشخص ـ الأستاذ) كان قد أشار عليّ ذلك الشخص أن يقوم بهذا العمل قبل سنوات. وفيما لو أخبر «الأستاذ» بأن تلك الفكرة وذلك العمل يلاقيان صعوبات، فإنك ترى «الأستاذ» يسارع ومن دون أية صعوبة إلى القول: «لقد أخبرته انك ستفشل» إذا لم تتبع جميع النصائح التي أعطيتها لك!
الحال النفسية التي يعيشها أحد الأفراد الساعين إلى «الأستاذية» قد تعيشها أمة أو منظمة أو شركة أو مجموعة معينة من الناس، فلو أخذنا بعض الدراسات التي حاولت فهم أسباب القوة الاقتصادية لليابانيين في العقود الثلاثة الماضية، فإن هناك الدلائل التي تشير إلى أن الشركات اليابانية اعتبرت نفسها شركات «تلميذة»، تتعلم دائما والمقارنات بين ما تصرفه الشركات اليابانية والشركات الغربية، في الثمانينات مثلا، مدهشة فكثير من الشركات اليابانية «التلميذة» تصرف الكثير على التدريب والتعليم تصل في كثير من الأحيان إلى 10 في المئة من قوت الموظف في مقابل ذلك، بينما كثير من الشركات الغربية «الأستاذة» كانت تصرف بين واحد أو اثنين في المئة على التدريب. ومع أن صرف الـ 10 في المئة يكلف أكثر بكثير من صرف الـ 2 في المئة، فإن الشركات «التلميذة» سرعان ما أخذت بزمام المبادرة التي فاجأت «الأساتذة»، «الأساتذة» بدورهم تعلموا من أخطائهم وسارعوا إلى تحويل أنفسهم إلى «تلامذة» واستطاعوا بعد قرابة عشر سنوات موازاة الجودة والأرباح التي يحصل عليها اليابانيون.
لو تركنا الجانب النفسي الذي يطغى على «الأستاذ» الذي لا يحتاج إلى التعليم، لأنه مدرس للآخرين، فإننا نرى أيضا العلة وراء انتصار التلميذ على الأستاذ. فالمعرفة العملية هي القدرة على اتخاذ القرار السليم وممارسة النشاط الفعال الموصل إلى الأهداف المرجوة. والتعليم ما هو إلا وسيلة للحصول على «المعرفة» ولتوسيع القدرة على اتخاذ القرار وممارسة النشاط.
التعليم والتتلمذ التقليديان يتبعان الأسلوب الفردي فقط، بمعنى أن على الفرد أن يجتهد شخصيا وأن يسهر الليالي لكي يحصل على أمانيه. وهذا الأسلوب سيبقى الأسلوب الأنجع لكل امرئ يسعى لتحسين أوضاعه العلمية والعملية. غير أن اليابانيين أيضا استحدثوا وسائل تعليم «جماعية» بمعنى ان الهدف من التعليم هو ان تحصل «الجماعة» على العلم والخبرة المطلوبة والتحرك بصورة جماعية من أجل الوصول إلى الهدف. والتعليم الجماعي يعتمد على المفاهيم القائلة بـ «Team Working»، أي العمل الجماعي من خلال فرق العمل. فالتعليم الرسمي والفردي قد يوصل إنسان ما إلى أعلى الدرجات، إلا أن عالم اليوم يحتاج إلى جهود متضافرة للوصول إلى أصغر الأهداف، وذلك بسبب التعقيد العصري لحياة اليوم، وأسلوب «التعليم الجماعي» ليس سهلا ولكنه ضرورة تكميلية للتعليم الفردي، لأنه يعتمد على ورش عمل بشأن تمارين حقيقية يتم فيها تداول الخبرة والمفاهيم واقتسام العمل، واقتسام المردود أيضا. وربما كان اقتسام المردود أصعب الأمور على النفس. ففي الحالات الفردية يحصل المرء على الجائزة لحاله عندما يتفوق، ولكن في حال الجماعة فإن الفرد المتفوق هو جزء من مجموعة، وحتى لو كانت الفكرة في الأساس هي فكرته، فإن المردود يأتي للمجموعة كلها.
التعليم الجماعي يستطيع أن يحول الفكرة والمفاهيم إلى إيمان عملي واندفاع جماعي. فالأفكار لا يمكن كتابتها جميعها، لأن هناك الكثير من الناس من يفهمون الأمور ولكن لا يستطيعون شرحها أو كتابتها للآخرين، والوسيلة الأمثل هي إشراكهم عمليا في تنفيذ الفكرة. والجميع يتعلم من خلال الممارسة وليس من خلال التنظير فقط. وكثير من الأفكار يتم تطويرها أو تغييرها أثناء الممارسة بعد الحصول على التصحيح العملي. وهذا التصحيح العملي يمكن أن نقرأه في سورة العصر: «والعصر، إن الإنسان لفي خُسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» (العصر، 1 -3). فالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر أمور متلازمة للإنسان «غير الخاسر»، الذي خاطبه القرآن الكريم: «يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحا فملاقيه»( الانشقاق، 6) إننا بحاجة إلى أن نصبح تلاميذ لبعضنا الآخر، وان نمتثل لقول الرسول (ص): «اطلب العلم من المهد إلى اللحد»، كما أننا بحاجة إلى ألا نكون أساتذة نعتمد على أحلام التلاميذ
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 221 - الإثنين 14 أبريل 2003م الموافق 11 صفر 1424هـ