تلتقي اليوم في الناصرية قوى المعارضة وأحزابها للبحث في مستقبل العراق بعد أن دمرته آلة الحرب الأميركية. فالمعارضة حالها حال بلاد الرافدين؛ فهي ممزقة ومفككة وموزعة على مراكز قوى وأكثر من قطاع. فالمعارضة هي معارضات عراقية مشتتة بين الداخل والخارج، ومقطوعة الصلة بأهلها وبجملة التطورات التي حدثت في بلد حكمته عشيرة بقبضة حديد عطلت إمكانات تقدم المجتمع الأهلي طوال ثلاثة عقود.
كيف يمكن قراءة «سوسيولوجيا» المعارضة (المعارضات) وتركيبها السياسي ـ الاجتماعي، وتكوينها الذهني ـ الثقافي؟ من الصعب الآن دراسة خصائص «المعارضات» وتفاصيلها العددية. فالكل يدعي انه الأكبر والأقوى والأكثر تمثيلا للشارع، وهذا الأمر لا يمكن ضبط صحته إلا بعد إجراء انتخابات «ديمقراطية» حرة ونزيهة في بلد نسي شكل «صندوق الاقتراع» ولم يتدرب بعد على مزاولة هذا الشكل من العمل السياسي.
الإحصاءات الدقيقة والنسبية عن أحجام «المعارضات» غير متوافرة، إلا انه يمكن تعيين بعض وجهات النظر بحسب الجهات الجغرافية والمذهبية والطائفية والمناطقية (المناطق ذات الغالبية العشائرية أو الأقوامية). فهذا النوع من القراءة يعطي فكرة إجمالية من دون أن يتدخل في التفاصيل والاطلاع على شبكات العلاقات السياسية وكيفية تحركها، ومن يسيطر عليها وكيف يتم اختيارها وما هي الآليات المعتمدة لإنتاج القيادات والزعامات.
إجمالا يمكن القول إن «المعارضات» العراقية لعبت لعبة خطرة، إذ يقول بعض رموزها إنه استخدم أكبر قوة في العالم لإزاحة نظام صدام حسين، وخلعه من بغداد. وبرأي هذا البعض ان الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم، كانت قادرة على لعب هذا الدور، ونجحت فيه بعد محاولات فاشلة بذلت خلال السنوات الماضية (12 سنة تقريبا). ويرى هذا البعض انه بعد أن أزاح الكابوس الارهابي الصدامي بات بالإمكان معالجة آثار الاستبداد بالتعاون مع واشنطن لإعادة العراق إلى حياته الطبيعية والإنسانية... وحين ينتهي من هذه المهمة سيكون بإمكانه الطلب من واشنطن مغادرة العراق.
هكذا بكل بساطة. بينما الواقع يقول إن أكبر قوة في العالم استخدمت «المعارضات» العراقية أو بعضها من أجل تحقيق أهداف أخرى أكبر من إزالة النظام الصدامي، وربما أكبر من العراق، وان ما حصل ليس نهاية مطاف الحرب، بل ربما محطة أولى في سباق تحولات إقليمية ستغير خريطة «الشرق الأوسط» السياسية، وتعيد ترتيبه وفق تصورات ليست بالضرورة متناسبة مع هوى وأهواء وتوجهات ورغبات قيادة «المعارضات» العراقية.
«المعارضات» العراقية في مشكلة، أو انها الآن تخلصت من مشكلة ووقعت في مشكلات لها صلة بالوجود الأميركي وأهدافه الخاصة المستقلة عن مشروع المعارضة، كذلك لها صلة بالحكم وتركيبة الدولة ونوعية قيادتها وأسلوب علاقاتها مع المجتمع ومحيطه الإقليمي والسياسي والطبيعي.
وحتى تستطيع «المعارضات» تصور طبيعة الحكم لابد لها من تصور تركيبة السلطة ومدى تمثيلها ليس للمعارضة بل لتوازنات القوى في المجتمع. فالمعارضة لا تستطيع أن تحكم إذا اختارت حكومتها من «المعارضات». فالمعارضات تمثل نصف المجتمع، بينما النصف الآخر موزع على ولاءات تمثيلية لمجموعات كانت خارج «دولة» صدام حسين وعشيرته، ولكنها لم تكن في صف المعارضة. هذه القوى الوسطية المتضررة من الحكم السابق لها سلسلة ولاءات من الصلات العميقة في المجتمع انقطعت عن السلطة السياسية، لكن سلطة تأثيرها على الواقع الاجتماعي لم تنقطع.
يمكن القول إن هذه القوى الوسطية (لا مع سلطة صدام ولا مع المعارضة) تشكل نقطة توازن حقيقية في مستقبل الدولة، وهي موجودة كحلقات سياسية ضيقة تراجعت بحكم «استبداد العشيرة» إلى ممارسة أنواع من السلطات المحلية في الكثير من المناطق العراقية. هذه «المعارضات» الداخلية تشكل نقطة ضعف للمعارضة الخارجية الآتية من عواصم أوروبا وواشنطن، أو التي زحفت مع الدبابات الأميركية أو أسقطت بالمظلات فوق المناطق العراقية. فالمعارضات الداخلية التي كانت منكمشة على نفسها في حلقات ضيقة تشكل الآن نقطة قوة في حال استعاد العراق وعيه السياسي. وهي في هذا المعنى أكثر تأثيرا على الأرض من تلك المعارضات «الخارجية» التي انقطعت صلاتها مع «روح» المجتمع منذ ثلاثة عقود.
حتى ان المعارضات «الخارجية» التي تطمح في بناء عراق «جديد» و«مختلف» تحتاج إلى فترة نقاهة للاطلاع على ما طرأ من تحولات ومستجدات على بلد غادرته من طريق القوة قبل عقود أو طردتها «العشيرة الحزبية» من دوائر الدولة. فالأمور لابد أن تكون اختلفت، كذلك لابد من ملاحظة تحولات المجتمع وتحولات الدولة. فالدولة كالمجتمع تتحول أيضا وتطرأ عليها سلسلة تغييرات لابد ان السلطة السابقة أدخلتها باعتبارها وسيلة للحكم، وبات من الصعب خلعها بسهولة من دون تدريب، وإعادة تكيف مع التطورات. والأمر نفسه ينطبق على «المعارضات» المشتتة على المناطق والطوائف والمذاهب... فهي بحاجة أيضا إلى إعادة تدريب وتكييف لتنسجم مع «الأهل» بعيدا عن الدوائر الأميركية وحلقاتها.
هناك مشكلات كثيرة تواجه «المعارضات» المجتمعة اليوم في الناصرية، وفي طليعتها إعادة إنتاج نفسها في ضوء تحولات تاريخية لم يحصل ما يقابلها في أي بلد عربي في التاريخ المعاصر. فالمعارضات «الخارجية» تحتاج أولا إلى استعادة صدقيتها أمام مجتمعها وتأكيد استقلالها السياسي عن قوات الغزو والعدوان. وتحتاج ثانيا إلى إعادة تكييف نفسها مع التغييرات الطارئة في العراق على المستويين: الدولة والمجتمع. وتحتاج ثالثا إلى التواضع وعدم اعتبار نفسها «البديل» و«المنقذ» الآتي من الغرب البعيد... وغيرها مجرد توابع وملحقات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 221 - الإثنين 14 أبريل 2003م الموافق 11 صفر 1424هـ