الإصلاح الاقتصادي يتطلب خطوات نوعية باتجاه تعزيز دور القطاع الخاص في تحريك عملية التنمية الاقتصادية. والحكومة يجب عليها مساندة ومساعدة القطاع الخاص، وليس منافسته كما كان الحال سابقا، وعدم مضايقته عبر اختلاط المسئوليات السياسية لهذا المسئول أو ذاك مع مصالحه التجارية.
في الماضي كان بنك الإسكان ينافس التاجر ويضيق عليه، فعندما بدأت الخطط لإنشاء «مجمع العالي» سارع بنك الإسكان لمنافسة ذلك المشروع عبر إنشاء «مجمع السيف». وهذه المنافسة ربما انها لن تتكرر بهذا الحجم، لكنها عبرت بصورة واضحة عن عدم فهم الحكومة لدورها الاقتصادي. فالحكومة ليست من مهماتها الدخول في مشروعات يقوم بها المواطنون، بل ان دورها هو دعم المجالات التي لا يرى المواطن إمكان دخوله فيها وتعتبر مهمة للوطن. كما ان الحكومة دورها هو مساعدة المواطنين في تحمل أعباء الخطط التنموية. مثلا، يتوجب على الحكومة المساعدة في تدريب الطاقات وتأهيل البحرينيين بصورة ملائمة للسوق المحلي، كما ان الحكومة يتوجب عليها مساعدة المواطنين الذين يتضررون من التسريح من هذه الشركة أو تلك، إذ يتضررون من خصخصة هذا القطاع أو ذلك القطاع.
السياسة الحكومية يلزمها ان تبتعد عن إدارة الاقتصاد، وتقوم بدور «المسهل» و«المساند» و«الداعم» و«المشجع» و«المنظم». هذا هو دور الحكومة بالدرجة الأولى، ويلزم جميع المؤسسات الحكومية إعادة صوغ استراتيجيتهم على هذا الأساس للإسراع في البدء بالإصلاح الاقتصادي.
ولقد كانت استجابة سمو رئيس الوزراء لمطلب غرفة تجارة وصناعة البحرين الأسبوع الماضي لإنشاء قنصلية تجارية في عدد من سفارات البحرين في بالخارج خطوة مهمة في هذا الاتجاه. ولعل تجار البحرين بحاجة ماسة إلى مثل هذه القنصلية في الأسواق المهمة في الخليج، وهذه هي أسواق إيران والعراق ولاحقا دول أخرى حسب الحاجة التي تحددها غرفة التجارة مع وزارة التجارة.
ولكي تتحول الحكومة من «إدارة الاقتصاد» إلى «تسهيل ومساندة برامج التنمية الاقتصادية» فإن عليها أيضا أن تخفف من إجراءاتها البيروقراطية. فالتضخم البيروقراطي يقتل النمو لأنه يشبه قطعة «الاسفنج» التي تمتص الماء ولا تسمح له بالمرور. فالحركة الاقتصادية تمتصها البيروقراطية ولا تسمح لها بالمرور أو ان يتم ترجمتها لما يخدم البلاد والعباد.
إن «الاسفنجة» البيروقراطية تتزايد مع الأيام وهذا لن يساعد في البدء بالإصلاح الاقتصادي بصورة حسنة، فالمعاملات تضيع وتختفي وربما يطالها الفساد الإداري، فهناك من يخاف تسليم اقتراح بتطوير برنامج اقتصادي معين لأن الأيدي ستتلاقفه، وربما ترميه في القمامة أو ان أحد المسئولين يتسلمه ويحوله إلى شركته الخاصة به، ولا يلتفت الشخص الأساسي إلا ومشروعه تم تنفيذه من دون أي احترام لبراءة اختراع أو براءة إبداع.
وهذا ينقلنا إلى أكبر معضلة تواجه الإصلاح الاقتصادي، وهي أن المسئول في الدولة ليس فقط مسئولا عن إدارة شأن عام، وإنما له تجارة وشأن خاص، ويتم خلط الشأن العام بالشأن الخاص، ويتم تغليب الشأن الخاص على الشأن العام وتتم التضحية بالبلاد ومصالحها من أجل الثراء الشخصي غير الخاضع للشفافية والمحاسبة...
إن هذه المعضلة هي العائق الرئيسي لتنمية اقتصاد البلاد بصورة مستديمة، فالبحرين لديها كل الخير ولديها ما يكفيها ولديها ما يؤهلها لريادة عدة قطاعات اقتصادية على مستوى الخليج، ولكن كل ذلك يعتمد على تشريع قانون ووضع آليات فاعلة وحقيقية تفصل الشأن العام عن الشأن الخاص، لا مانع من قيام أي شخص بممارسة تجارته ولكن المانع هو أن تكون للمسئول تجارة خاصة به ويكون هو أيضا المسئول عن سياسة البلاد المتعلقة بهذه التجارة أو بهذا النوع من العمل الاقتصادي.
لقد كانت إحدى العناوين المطروحة عند البدء بالإصلاح قبل عامين هي فصل التجارة الخاصة عن الإدارة العامة، وقد كان أمل الجميع في أن تكون هناك خطوات رمزية في هذا الاتجاه. ولكن الوضع ـ عموما ـ بقي على ما هو عليه. ولذلك فإن ما يطلق عليه أصحاب الأعمال (FEEL GOOD FACTOR) ليس موجودا. فعامل «الشعور بأن الأمور حسنة» وتسير إلى الأفضل يعتبر أهم عامل بالنسبة إلى أصحاب الأعمال، وصاحب العمل يود أن يشعر عندما يتحدث لمسئول في الدولة انه يتحدث إلى شخص محايد ليست له مصلحة شخصية في تعطيل مصالح الآخرين لمصلحته الخاصة. وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة سمة عامة لدى كل البشر (إلا في حال الأنبياء الذين يعصمهم الله عن ارتكاب الأخطاء). ولذلك، فإننا باعتبارنا بشرا بحاجة إلى ضمانات مؤسساتية تفصل الشأن العام عن الشأن الخاص، وتحاسب المسئول الذي لديه تجارة خاصة للتأكد من انه لم يجير إمكانات الدولة لمصلحة شركاته أو شركات زوجته أو أبنائه وبناته.
هذه المتطلبات الأولية مازالت مطلوبة، ومازلنا بحاجة إلى خطوات (حتى لو كانت رمزية فقط) لبث الشعور لدى رجال الأعمال بأن الأمور حسنة وانها تسير إلى الأحسن.
عندما تتحول الحكومة من مديرة للاقتصاد إلى مسهلة ومساندة له، وعندما يتم تقليل البيروقراطية، وعندما يتم فصل التجارة الخاصة عن الإدارة العامة، تتحرك كل الجهود من أجل تنمية مستدامة ونامية، بدلا من ثروات شخصية متعاظمة تأكل الأخضر واليابس كما يأكل الجراد الزرع المثمر وغير المثمر
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 221 - الإثنين 14 أبريل 2003م الموافق 11 صفر 1424هـ