العدد 221 - الإثنين 14 أبريل 2003م الموافق 11 صفر 1424هـ

الاختلاف وتعدد الثقافات

القطيف - زكريا الراشد 

تحديث: 12 مايو 2017

عند إلقاء نظرة ولو سريعة على كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني نلحظ حال التنوع الفكري في المجتمع والأمة الإسلامية في المرحلة التي أرخ لها والواقعة بين عامي (11-548هـ)، إذ تتوزع الكثير من المناهج الفكرية والأطياف الثقافية مناحي الحياة، وكل يسعى لدعم رؤيته بالحجة والبرهان،ومع شدة الاختلاف بين هذه التيارات الفكرية،إلا أن أمر إقناع أي طرف للآخر يتم عبر الدليل والبرهان والحجة، إلا بعض التيارات التي مارست العنف كوسيلة لإقناع المجتمع بأفكارهم، كالخوارج الذين حملوا السلاح أمام خصومهم الفكريين، بدل الحجة والدليل القاطع.

وفي القرن الواحد والعشرين نلحظ عودة التنوع الثقافي والفكري داخل الأمة، وازدياد مسميات هذه التيارات التي تحمل رؤى فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية، ومن الأسباب التي أسهمت في عودة هذه الظاهرة الثقافية المتنوعة للعقل العربي، قد يكون أحدها تقنية تكنولوجية متطورة ذللت البعد الجغرافي بين المجتمعات والدول، فقد أحدث تطور وسائل الاتصال ثورة فكرية ومعلوماتية، غيرت الكثير من المفاهيم السائدة في العقل البشري، وألغت الحواجز التي تمنع التلاقي الفكري والمعلوماتي بين المجتمعات والشعوب.

وما يهمنا هو بحث التنوع الثقافي والفكري داخل المجتمعات الإسلامية، والبحث في المنظومة الفكرية الدينية عن مبررات هذا التنوع، وعن الحرية الفكرية التي يكرسها الإسلام الذي يجعل الحجة والبرهان عماد الصحة والخطأ، ويؤسس لهذه الحرية الفكرية، حتى تستطيع التيارات الفكرية المختلفة أن تتعايش داخل إطار واحد، وتسعى لأهداف مشتركة.

فالإسلام يؤسس قيم المنظومة المعرفية، على ركيزة أساسية، هي (لا إكراه في الدين)، وتنبثق من هذه القيمة العليا الكثير من المفاهيم والقيم الفرعية، كالاحترام المتبادل، حسن الظن، التعاون، الثقة، وغيرها من المفاهيم التي تركز على مبدأ قبول الاختلاف والتعاطي معه بعقل منفتح.

الاختلاف في الفكر والتنوع في الثقافات من أبرز عوامل التطور داخل المجتمعات الحديثة، وبقدر ما يكون المجتمع متسامحا فكريا وقادرا على تقبل المختلف من الآراء والنظريات، بالقدر ذاته يمكنه بناء مسيرة تطوره، وأداء رسالته الثقافية للآخرين، وقد تقبل العلماء والفقهاء هذا التنوع داخل المنظومة المعرفية الإسلامية، وتأسست الأبنية الثقافية والفكرية على هذه الركيزة فمثلا علم الفقه الذي يعد من أهم العلوم التي شغلت العقلية العربية انبنت أساساته الفقهية على هذا الأساس من التعاطي مع كل الرؤى المختلفة وساده جو من التعاطي والحوار سواء داخل المدرسة الفقهية الخاصة (= المذهب ) أم مع المدارس الفقهية الأخرى، وعد هذا الأمر دلالة على الصحة والنضج في العقلية المجتمعية.

يقول «محمد أبو زهرة «، في كتابه «تاريخ المذاهب الإسلامية» :إن هذا الاختلاف قد فتح القرائح فاتجهت إلى تدوين علم الإسلام مجتهدة متتبعة من غير جمود، وتركت من بعد ذلك تركة مثرية من الدراسات الفقهية، لا نكون مغالين، ولا متجاوزين المعقول إذا قلنا إنها أعظم ثروة فقهية في العالم الإنساني.

أما عن بذور التعددية الثقافية والفكرية، فيرجعها «حسن الصفار» في كتابه «التنوع والتعايش» إلى العصور الإسلامية الأولى، فقد غرست التعددية مبكرا في أرضية الأمة، والاختلاف الفكري بدأ باكرا في حياة المسلمين، بيد أن التنوع الفقهي والفكري لم يكن ملازما للخلاف والفرقة بل كان في مراحله الأولى وفي فترات مشرقة من حياة الأمة ميدانا لتلاقح الأفكار، وإثراء الفكر والفقه الإسلامي وكان التعاطي والتعامل فيما بين الصحابة عند الاختلاف في المسائل، وفيما بين أئمة المذاهب يتم بموضوعية وسعة صدر، فإما أن يخضع للرأي الآخر ويتنازل عن رأيه حينما تتضح له الحجة والصواب، وأما أن يتمسك برأيه مع تقديره لمخالفه واحترامه لرأيه.

إن ظاهرة التعدد الفكري بدأت مع الإنسان الأول، واستمرت تلازم مسيرة حياته، وستبقى. وعندما نتحدث عن مجتمع المدينة في عهد الرسول (ص) نرى كيف احتضن هذه التعددية في الآراء، فلا يبرز حدثا مصيريا إلا ويستشير الرسول أصحابه، وطبعا تكون الآراء متعددة، كما حدث عندما جاء المشركون لحرب الرسول فقد كان رأي الرسول هو التحصن في المدينة، ومحاربة الكفار منها، إلا أن الآراء تعددت وغلب الرأي الذي يرى الخروج إليهم، ولم يجبر الرسول أحدا على رأيه، فخرج الرسول وأصحابه والتقى الجمعان عند جبل أحد، وقد كان الأوس والخزرج يمثلان حالا من التعدد الفكري المنسجم والمتعاون، ويحدثنا التاريخ عن الكثير من حالات التعدد في الرأي، وكيف كان الرسول يتعامل مع هذه الظاهرة، ولم نره (ص) يمارس القمع أو تسفيه رأي أحد أبدا.

وللحفاظ على الحرية الفكرية داخل المجتمع وبين الأطياف المتعددة داخل الأمة، قام الإسلام بتقنين هذه الحرية وضبطها عبر التأصيل الفقهي والمقاصدي لها، وقد ضبطت هذه الأصول فيما سمي بالقواعد الفقهية، والأصول العملية، فتجد الكثير من القواعد التي تمنح حال التعدد الفكري داخل الأمة، بين المسلمين وغيرهم، وبين المسلمين أنفسهم، الشرعية في الممارسة من خلال حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، مثل قاعدة السلطنة، وقاعدة الأصل الصحة في فعل المسلم، وقاعدة الإلزام، وقاعدة احترام مال المسلم وعمله، وقاعدة الإرشاد، وغيرها من القواعد التي تصب مباشرة أو غير مباشرة في التقنين للحرية الفكرية وغيرها من الحريات التي حث الدين الإسلامي المجتمع على احترامها، بل ضمان تطبيقها في الواقع الحياتي للناس، حتى لا يقعوا كما يقول الفقهاء في الهرج والمرج.

ولعل في تاريخنا الكثير من الشواهد التي تكرس مبدأ الحرية الفكرية، وترفض مبدأ قمع الرأي المختلف، ومن الشواهد الرائعة التي تدل على سعة الصدر والتعاطي مع الآخر بكل تقدير واحترام هو ما حدثنا به أبو حنيفة مؤسس المذهب الحنفي الذي يقول: قال لي أبو جعفر المنصور: يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، والتقى بالإمام جعفر بن محمد في الحيرة في حضرة المنصور، يقول أبو حنيفة في اللقاء: أتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلمت عليه وأومأ فجلست، ثم التفت إلي فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبدالله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على المسائل الأربعين مسألة مسألة وما أخل منها بمسألة، ثم قال أبو حنيفة: إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس. القطيف - زكريا الراشد

عند إلقاء نظرة ولو سريعة على كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني نلحظ حال التنوع الفكري في المجتمع والأمة الإسلامية في المرحلة التي أرخ لها والواقعة بين عامي (11-548هـ)، إذ تتوزع الكثير من المناهج الفكرية والأطياف الثقافية مناحي الحياة، وكل يسعى لدعم رؤيته بالحجة والبرهان،ومع شدة الاختلاف بين هذه التيارات الفكرية،إلا أن أمر إقناع أي طرف للآخر يتم عبر الدليل والبرهان والحجة، إلا بعض التيارات التي مارست العنف كوسيلة لإقناع المجتمع بأفكارهم، كالخوارج الذين حملوا السلاح أمام خصومهم الفكريين، بدل الحجة والدليل القاطع.

وفي القرن الواحد والعشرين نلحظ عودة التنوع الثقافي والفكري داخل الأمة، وازدياد مسميات هذه التيارات التي تحمل رؤى فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية، ومن الأسباب التي أسهمت في عودة هذه الظاهرة الثقافية المتنوعة للعقل العربي، قد يكون أحدها تقنية تكنولوجية متطورة ذللت البعد الجغرافي بين المجتمعات والدول، فقد أحدث تطور وسائل الاتصال ثورة فكرية ومعلوماتية، غيرت الكثير من المفاهيم السائدة في العقل البشري، وألغت الحواجز التي تمنع التلاقي الفكري والمعلوماتي بين المجتمعات والشعوب.

وما يهمنا هو بحث التنوع الثقافي والفكري داخل المجتمعات الإسلامية، والبحث في المنظومة الفكرية الدينية عن مبررات هذا التنوع، وعن الحرية الفكرية التي يكرسها الإسلام الذي يجعل الحجة والبرهان عماد الصحة والخطأ، ويؤسس لهذه الحرية الفكرية، حتى تستطيع التيارات الفكرية المختلفة أن تتعايش داخل إطار واحد، وتسعى لأهداف مشتركة.

فالإسلام يؤسس قيم المنظومة المعرفية، على ركيزة أساسية، هي (لا إكراه في الدين)، وتنبثق من هذه القيمة العليا الكثير من المفاهيم والقيم الفرعية، كالاحترام المتبادل، حسن الظن، التعاون، الثقة، وغيرها من المفاهيم التي تركز على مبدأ قبول الاختلاف والتعاطي معه بعقل منفتح.

الاختلاف في الفكر والتنوع في الثقافات من أبرز عوامل التطور داخل المجتمعات الحديثة، وبقدر ما يكون المجتمع متسامحا فكريا وقادرا على تقبل المختلف من الآراء والنظريات، بالقدر ذاته يمكنه بناء مسيرة تطوره، وأداء رسالته الثقافية للآخرين، وقد تقبل العلماء والفقهاء هذا التنوع داخل المنظومة المعرفية الإسلامية، وتأسست الأبنية الثقافية والفكرية على هذه الركيزة فمثلا علم الفقه الذي يعد من أهم العلوم التي شغلت العقلية العربية انبنت أساساته الفقهية على هذا الأساس من التعاطي مع كل الرؤى المختلفة وساده جو من التعاطي والحوار سواء داخل المدرسة الفقهية الخاصة (= المذهب ) أم مع المدارس الفقهية الأخرى، وعد هذا الأمر دلالة على الصحة والنضج في العقلية المجتمعية.

يقول «محمد أبو زهرة «، في كتابه «تاريخ المذاهب الإسلامية» :إن هذا الاختلاف قد فتح القرائح فاتجهت إلى تدوين علم الإسلام مجتهدة متتبعة من غير جمود، وتركت من بعد ذلك تركة مثرية من الدراسات الفقهية، لا نكون مغالين، ولا متجاوزين المعقول إذا قلنا إنها أعظم ثروة فقهية في العالم الإنساني.

أما عن بذور التعددية الثقافية والفكرية، فيرجعها «حسن الصفار» في كتابه «التنوع والتعايش» إلى العصور الإسلامية الأولى، فقد غرست التعددية مبكرا في أرضية الأمة، والاختلاف الفكري بدأ باكرا في حياة المسلمين، بيد أن التنوع الفقهي والفكري لم يكن ملازما للخلاف والفرقة بل كان في مراحله الأولى وفي فترات مشرقة من حياة الأمة ميدانا لتلاقح الأفكار، وإثراء الفكر والفقه الإسلامي وكان التعاطي والتعامل فيما بين الصحابة عند الاختلاف في المسائل، وفيما بين أئمة المذاهب يتم بموضوعية وسعة صدر، فإما أن يخضع للرأي الآخر ويتنازل عن رأيه حينما تتضح له الحجة والصواب، وأما أن يتمسك برأيه مع تقديره لمخالفه واحترامه لرأيه.

إن ظاهرة التعدد الفكري بدأت مع الإنسان الأول، واستمرت تلازم مسيرة حياته، وستبقى. وعندما نتحدث عن مجتمع المدينة في عهد الرسول (ص) نرى كيف احتضن هذه التعددية في الآراء، فلا يبرز حدثا مصيريا إلا ويستشير الرسول أصحابه، وطبعا تكون الآراء متعددة، كما حدث عندما جاء المشركون لحرب الرسول فقد كان رأي الرسول هو التحصن في المدينة، ومحاربة الكفار منها، إلا أن الآراء تعددت وغلب الرأي الذي يرى الخروج إليهم، ولم يجبر الرسول أحدا على رأيه، فخرج الرسول وأصحابه والتقى الجمعان عند جبل أحد، وقد كان الأوس والخزرج يمثلان حالا من التعدد الفكري المنسجم والمتعاون، ويحدثنا التاريخ عن الكثير من حالات التعدد في الرأي، وكيف كان الرسول يتعامل مع هذه الظاهرة، ولم نره (ص) يمارس القمع أو تسفيه رأي أحد أبدا.

وللحفاظ على الحرية الفكرية داخل المجتمع وبين الأطياف المتعددة داخل الأمة، قام الإسلام بتقنين هذه الحرية وضبطها عبر التأصيل الفقهي والمقاصدي لها، وقد ضبطت هذه الأصول فيما سمي بالقواعد الفقهية، والأصول العملية، فتجد الكثير من القواعد التي تمنح حال التعدد الفكري داخل الأمة، بين المسلمين وغيرهم، وبين المسلمين أنفسهم، الشرعية في الممارسة من خلال حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، مثل قاعدة السلطنة، وقاعدة الأصل الصحة في فعل المسلم، وقاعدة الإلزام، وقاعدة احترام مال المسلم وعمله، وقاعدة الإرشاد، وغيرها من القواعد التي تصب مباشرة أو غير مباشرة في التقنين للحرية الفكرية وغيرها من الحريات التي حث الدين الإسلامي المجتمع على احترامها، بل ضمان تطبيقها في الواقع الحياتي للناس، حتى لا يقعوا كما يقول الفقهاء في الهرج والمرج.

ولعل في تاريخنا الكثير من الشواهد التي تكرس مبدأ الحرية الفكرية، وترفض مبدأ قمع الرأي المختلف، ومن الشواهد الرائعة التي تدل على سعة الصدر والتعاطي مع الآخر بكل تقدير واحترام هو ما حدثنا به أبو حنيفة مؤسس المذهب الحنفي الذي يقول: قال لي أبو جعفر المنصور: يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، والتقى بالإمام جعفر بن محمد في الحيرة في حضرة المنصور، يقول أبو حنيفة في اللقاء: أتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلمت عليه وأومأ فجلست، ثم التفت إلي فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبدالله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على المسائل الأربعين مسألة مسألة وما أخل منها بمسألة، ثم قال أبو حنيفة: إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً