يبدو العراق اليوم وكأنه ضرب بقنبلة فراغية أسهمت في تجويف كل مقوماته السياسية والاقتصادية والعسكرية. فالعراق الآن دولة مجوفة أصيبت مؤسساتها بشلل تام فاختفى معظمها وكأنها لم تكن موجودة، وتضعضع البعض، وتعرض البعض الآخر وما تبقى من مراكز حكومية لنهب وسرقة من عناصر هامشية ومنبوذة ترى أن هذه هي فرصتها الوحيدة للظهور أمام عدسات المصورين في شوارع البصرة والموصل وبغداد.
بغداد اليوم مدينة مفتوحة للغزاة ومنكوبة وقليلة الحظ. ظُلمت المدينة ثلاثة عقود وتسلط عليها أبناء عمومة وأخوال من عشيرة واحدة استغلت شعارات حزب يقول بالوحدة والحرية والاشتراكية فكانت سياسة ذاق أهل دجلة والفرات منها الأمرَّين.
كيف تختفي «دولة» في لمحة بصر؟ وكيف تغادر دولة مدينتها تاركة أهلها في حال ذهول وضياع يتعرض سكانها لغارات «شذّاذ آفاق» لا يعرف أين كانوا ومن أين جاءوا؟
إنها مدينة منكوبة. بغداد قليلة الحظ. أذلتها طوال ثلاثة عقود عشيرة تسلطت على الدولة والحزب والجيش، وسلمتها طواعية إلى الغزاة، وأخيرا تركت المدينة مفتوحة لفئات هامشية ومنبوذة لا يعرف أصلها من فصلها... تحتفل بقدوم الأميركان وغدا لا يُعرف أين تكون ومع من تكون؟
مدينة الرشيد أُذلت مرارا في عقود ثلاثة. حكمتها عشيرة، وحين تعرضت للغزو رحلت العشيرة آخذة الدولة وتاركة أهل المدينة ضحايا الغزاة ومجموعات من النهابين والحراقين.
سقطت مدينة المنصور عاصمة العالم أيام العباسيين. سقطت المدينة في أيدي العشيرة منذ ثلاثة عقود، وتسقط الآن ثانية وثالثة أمام غزوات «رعاة البقر» وحثالات اجتماعية لا تعرف معنى المدينة ولا تاريخها.
العسكريون في العالم طرحوا السؤال: كيف سقطت بغداد بهذه السهولة وخالفت معركتها كل التوقعات؟ هناك أجوبة عسكرية وسياسية كثيرة سمعنا بعضها وسنسمع الكثير عنها. إلا أن الجواب الذي لم يذكر حتى الآن وهو أن أهل المدينة لم يسقطوا. العشيرة سقطت، حين قررت الرحيل من مكانها فأخذت معها دولتها وغادرت إلى مدينة أخرى أو مجهول آخر.
لم تكن في بغداد دولة... لم تكن هناك دولة ـ مدينة. هناك عشيرة حاكمة. هناك دولة ـ عشيرة. وعندما غادرت العشيرة رحلت الدولة معها. سقطت بغداد العشيرة. سقطت دولة العشيرة... وبغداد الدولة لم تسقط لسبب بسيط وهو أنها لم تكن موجودة.
بغداد الرشيد، أصبحت بغداد المجنونة. وبغداد المنصور تحولت إلى مدينة مكسورة. انكسرت المدينة وحدها. لم تجد من يدافع عنها. غادرتها العشيرة وغدرت بها. وضعتها وحدها أمام العالم تواجه المجهول وتقرأ حظها العاثر في صفحات تاريخ يكتبه غيرها.
أيها الغزاة اتركوا المدينة لأهلها. أيها النهّابون غادروا بغداد والتحقوا بعشيرتكم ودولتها التي اختفت في لحظة ظالمة كان ينظر العالم فيها إلى مدينة قادت المعمورة يوما من الظلمة إلى النور.
ماذا فعلت بغداد حتى تنال ما نالها من عقاب واقتصاص وانتقام؟ اتركوا بغداد تستفيق من نومها وتنهض من ركامها وحطامها. من يريد الدولة. الدولة رحلت مع عشيرتها. أما بغداد فهي باقية وستعود مدينة كما كانت وكما وعدت
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ