سقط الصنم الرمز لتدوسه الأقدام و«تسحله» جماهير الشعب الغاضب في أحد ميادين بغداد إعلانا عن سقوط نظام قبلي متخلف ومستبد كان يعيش داخل ثقافة شمولية تقوم على عبادة الفرد، وتسلط القبيلة والحزب الواحد على الحكم، وذبح المعارضة، ورفع الشعارات الزائفة، وتهميش مؤسسات المجتمع المدني، وعسكرة المجتمع، وتغييب القضاء، وبناء الأصنام تمجيدا لرأس النظام الحاكم. وعلى خلفية هذه الثقافة سفكت الدماء، وعمم الرعب، وارتكبت الفظائع، ومورس الارهاب والتعذيب والظلم وعدم التسامح والعدوان على المواطنين. وقد أدى كل ذلك على المدى الطويل إلى قتل الفكر والثقافة، ودوس العقيدة، وإشغال المجتمع بالمغامرات الخارجية غير المحسوبة، وتخريب الاقتصاد، وخرق النسيج الاجتماعي، ونشر الفساد والرذيلة، وبناء القصور، بينما الشعب يعيش في بيوت الطين البائسة، وإفقار الناس وتجويعهم وتهجيرهم، والعدوان على المجتمع وثقافته وآماله، وتحطيم المعنويات والطموحات الشخصية، حتى وصلت الأمور إلى مستوى من الإحباط والمعاناة والقهر، تخلى فيه الإنسان نهائيا عن إنسانيته وكرامته لعله يتمكن في النهاية من العيش منهكا مهملا مهزوما.
ثم نفاجأ بسقوط بغداد، ونتساءل: لماذا لم يقاوم الشعب الزحف «المغولي» عليها بعد أن أوهمنا بأن «العلوج» سيدحرون على أسوارها. بل ان الحقيقة المرة التي برزت بالصوت والصورة هي أن الشعب هتف للغزاة من داخل سجنه الكبير، ما برر ادعاء هؤلاء الغزاة بأنهم إنما جاءوا لتحريره.
وفي محاولة سريعة لاستيعاب ما حدث فعلا، أرى بعض الدروس التي يمكن أن تستخلصها المنطقة من هذا السقوط الأخير:
- في القرن الواحد والعشرين، وخصوصا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، يستحيل استمرار الأنظمة التي لم تكتسب شرعيتها عن طريق العملية الديمقراطية.
- ضرورة التوجه نحو الديمقراطية الكاملة ومناقشة إمكان التناوب على الحكم من قبل القوى الديمقراطية والتحديثية.
- ضرورة تحديث مؤسات الدولة بعيدا عن الاعتبارات الايديولوجية بكل أشكالها.
- ضرورة تحديث نظم التعليم لفتح آفاق المعرفة المفيدة والعملية، وتوسيع المفهوم الحضاري ليشمل نبذ التعصب، والخروج من ظلمات الارهاب الفكري والعقائدي، والتسامح مع الحضارات والأديان الأخرى، والقدرة على فهم الآخر.
- التركيز على إشراك الشعوب ومؤسساتها المدنية في اتخاذ جميع القرارات وخصوصا تلك المصيرية منها المتعلقة بالحرب والسلام.
- ضرورة أن تعكس قرارات الحاكم توجهات الرأي العام من خلال العملية الديمقراطية، وبالتالي سد الثغرة الكبيرة بينما يريده الناس وما تقرره وتنفذه الحكومات من سياسات داخلية وخارجية خارج المؤسسات المدنية الشرعية.
- الابتعاد تماما عن سياسات عبادة الفرد نفاقا وخوفا وتملقا، كما اختصار الوطن في شخص الفرد الحاكم.
- تأمين الحريات الشخصية والتطبيق الكامل لحقوق الإنسان.
- تأمين استقلال القضاء عن الأجهزة التنفيذية والأمنية للدولة.
- عدم بناء الجيوش وتحميل موازنة الدولة كلفة تسليحها وتموينها وترفيهها على حساب المجتمع المدني، وخصوصا ان في المجتمع الديمقراطي لا تبنى الجيوش لحماية الأنظمة والقبيلة وإنما لحماية الأوطان.
- إلغاء وزارات الإعلام وأجهزة الإعلام الرسمية التي تبث صورا وهمية لا تحترم عقول المتلقين، ولا تساعد على وقف غثيانهم المستمر الذي يسببه هؤلاء الذين كلفوا تسويق الأوهام والأكاذيب حتى في الظروف المصيرية.
والسؤال الأهم الذي يطل علينا من تداعيات نكبة سقوط بغداد هو: هل ان سقوط الصنم الرمز يفتح الطريق لتداعي سقوط بقية الأصنام؟
العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ