العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ

«برج بابل»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ماذا يجري في العراق؟ سؤال من الصعب الإجابة عنه في ظل سيطرة الفوضى العامة التي شملت معظم مدنه الكبرى وبقاعه. إلى الفوضى هناك اضطرابات سياسية ناتجة عن تفكك السلطة المركزية وتلاشيها في معظم أنحاء الدولة. إلى الاضطراب هناك انسحاب القوات الموالية للرئيس (السابق) صدام حسين وإعادة تجميعها في تكريت (مسقط رأسه) ومحيطها. إلى انسحاب السلطة وقواتها هناك ما يشبه الشلل السياسي الذي يهدد باضمحلال الدولة ونهوض «حكومات محلية» تدعي تمثيلها للمحافظات والأقاليم.

سقط العراق عسكريا، وسقوطه أشبه بالانهيار. وباستثناء تكريت وجوارها وبعض جيوب المقاومة المتفرقة يمكن القول إن الفوضى هي المنتصر الوحيد في ظل غياب سلطة بديلة، وعدم معرفة مصير صدام وطاقمه وأسرته. وعزز هذا الفراغ السياسي إحجام الغزاة عن إعلان فوزهم العسكري. وحتى اللحظة لاتزال القيادة المركزية لقوات الاحتلال تعلن أن المعركة مستمرة وان العراق ليس آمنا في وقت تستعد فيه للهجوم الأخير على تكريت ومحيطها للقضاء عليها بضربة واحدة على بقايا جيوش صدام التي يقال انها ضخمة العدد تصل إلى سبع فرق بينها «فرقة عدنان» التابعة للحرس الجمهوري.

سقط العراق عسكريا اذن بينما قوات الاحتلال مترددة في إعلان فوزها في فترة تشهد البلاد فوضى عارمة كشفت عن ضعف مريع للمعارضة العراقية. فالمعارضة باتت أمام واقع مكشوف: الشارع في حال هياج، والناس لا تريد صدام وترفض الغزاة، والسلطة البديلة مشلولة وشبه غائبة.

ما يحصل في العراق ليس مستغربا وهو يمكن تكراره في أي مكان إذا جرت الأمور فيه على المنوال العراقي. ما حصل في العراق من تغيير لم يكن نتاج تحولات داخلية، وإنما غزوة خارجية أشبه بالانقلاب العسكري على سلطة مركزية قبضت على البلاد من طريق القوة منذ قرابة ثلاثة عقود. والتغيير الخارجي من طريق الغزو والاحتلال كشف أولا عن ضعف المعارضة «الخارجية» وعدم قدرتها على فهم آليات المجتمع الذي غابت عنه قرابة ثلاثين سنة. والغزو كشف ثانيا عن ضعف سلطة مركزية استولت على الدولة، وأعادت تركيبها على قاعدة عشائرية ضيقة موجودة في كل مكان، ولكنها لا تتمتع بغالبية أهلية (مدنية) تغذيها بالخبرات والرجال والنساء والقوى التي لها مصلحة بالدفاع عن النظام. والغزو كشف ثالثا عن هزال الفهم الأميركي لطبيعة «الدولة» في بلد عربي ـ إسلامي شديد التعقيد والتركيب.

جاءت أميركا بقواتها العسكرية لضرب سلطة مركزية والاستيلاء على العراق وتحويله إلى محطة انطلاق لموجة ثانية من الهجمات والغزوات ضد دول الجوار العربية والإسلامية. جاءت أميركا بطائراتها وأنزلت المعارضة بالمظلات أو نقلتها بالدبابات برا، ونشرتهم في الأمكنة التي استولت عليها ظنا منها أن هؤلاء «البدلاء» عندهم القدرة على ضبط الأمور واحتواء الفلتان الأمني منعا للفوضى والنهب والسلب. وحتى الآن حصل العكس، فالقوات الأميركية احتلت البلاد ولكنها فقدت السيطرة عليها والمعارضة أنزلت في مواقع الاحتلال ولكنها غير قادرة على التفاهم مع أهلها. فالمعارضة هي «معارضات» والآراء متنوعة إلى حد أن الحاسوب الأميركي غير قادر على إحصاء أنواعها ومسمياتها.

فعلا يمكن القول ان القوات الأميركية غرقت في «الرمال العراقية» السياسية والاجتماعية. فالنسيج المركب من أطياف غير موحدة من الأنواع والأقوام والقبائل والعشائر والمناطق ومراكز القوى والمراجع التقليدية والحديثة خلط أوراق اللعبة وباتت القيادة العسكرية الأميركية المركزية في حيرة من أمرها... وأمر التشتت والتشرذم والتفكك الذي انهار مع انهيار السلطة القابضة على هذا الكم من الأسماء (عربي، تركماني، كردي، آشوري، بدوي، حضري) مضافا إليها تشكيلة من المذاهب والطوائف والأديان والأكثريات والعشائر والقبائل والمناطق والمرجعيات التي لا يعرف أولها من آخرها ولا يعرف من أين جاءت وما هو مصدر قوتها، وما هي الأسس الاجتماعية التي تتماسك عليها.

هناك صدام واحد ومئات البدائل أمام قوات الغزو. صدام من السهل هزيمته عسكريا، وما حصل لسلطته وقواته كان من الأمور المتوقعة. غير المتوقع كان تخثر قوى المعارضة وتعارضها وتضاربها وعدم قدرتها على توحيد لغتها وكلامها ومشروعاتها وبرامجها وبدائلها.

ماذا يجري في العراق؟ سؤال من الصعب الإجابة عنه... إلا أن التفكك الحاصل هو أشبه بتلك الأسطورة عن «برج بابل» حين ارتفع إلى السماء وضاعت لغة أهله حين فقد الناس صلتهم بأرض الواقع. وبقدر ما كان البرج يرتفع عاليا كانت اللغة تزداد ضياعا وتضعف إمكانات التفاهم. فالكل في البرج ولا أحد يفهم لغة الآخر. هذا هو العراق بعد سقوطه عسكريا. أما قوات العزو والاحتلال فإن سقوطها السياسي سيكون في المستقبل أسوأ من اسطورة «برج بابل»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً