على مدار خمسة ايام وفي الريف البريطاني بعيدا عن المدينة، نظمت وزارة الخارجية البريطانية لقاء لعدد من المتخصصين من دول مختلفة عربية وأوروبية واميركية من أجل البحث في موضوع واحد هو (الاصلاح في البلاد العربية). والفروع التي نوقشت في هذا اللقاء هي: الاصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
في مثل هذه اللقاءات تتعدد الآراء بالضرورة، وتختلف الرؤى، وكان ذلك مطلوبا حتى تتضح الصورة على اختلاف ألوانها وظلالها، وقد قُدمت في هذا اللقاء مداخلات مختلفة من اهل الرأي والخبرة، من بينها مداخلات فردية معتمدة على خبرة طويلة سابقة لأصحابها، وبعضها قريبة الى الموقف الرسمي، وأطلقت الاخيرة بالونة اختبار لجس النبض حولها وقياس مدى القبول والمواءمة.
التوقيت والمكان مهمان، فالتوقيت هو إبان خوض الحرب في العراق وتصاعد غبار المعركة مع عدم وضوح نتائجها النهائية، والمكان هو احتضان مؤسسة بحثية تابعة للخارجية البريطانية مداولات هذا اللقاء، وبريطانيا بلاد قريبة من العرب، زادها قربا تطور الاتصالات والمواصلات، ولها خبرة في شئونهم تفوق الخبرة الاميركية، صاحبة الدروع الفولاذية والقبضة الحديد، وفي الوقت نفسه قليلة الخبرة بشئون وشجون الشرق الاوسط التي وجدت نفسها مطالبة بأن تتعامل مع ثوابته القليلة ومتغيراته السريعة.
قراءتي، وهي قراءة شخصية، للأفكار الرئيسية التي ظهرت في هذا اللقاء هي كالآتي:
أولا: ان الحروب، كل الحروب، غالبا ما تأتي بتغيرات واسعة في المنطقة التي خيضت فيها تلك الحروب، وكان ذلك صحيحا في كل الحروب الاوروبية على مدار القرون الثامن والتاسع عشر والعشرين، فقد كانت عصبة الامم من نتاج الحرب العالمية الاولى في القرن الماضي، والامم المتحدة نتاج الحرب العالمية الثانية، وكلتاهما لإصلاح العلاقات الدولية، كما ان تحرير العبيد في اميركا كان نتاج الحرب الاهلية، وكذلك الاصلاحات السياسية والاجتماعية في بريطانيا، كانت نتاجا مباشرا للحربين العالميتين الاولى والثانية. ولم تكن البلاد العربية بمنأى عن هذا المسار التاريخي الذي يكاد لا يستثني احدا، فخسارة العرب في حرب فلسطين العام 1948 كان لها نتائجها المعروفة التي احدثت تغيرات جذرية في المنطقة، وجاءت بأنظمة حكم جديدة، كما كانت لخسارة حرب 1967 نتائج على التركيبة الاجتماعية والسياسية لمعظم البلاد العربية، فتراجع الفكر القومي ليظهر الفكر الديني السياسي، كما أن الحرب العراقية الايرانية نتجت عنها مجموعة متغيرات، لعل احتلال الكويت كان واحدا منها. والنتيجة النهائية في ذلك تقول ان الحروب تأتي بنتائجها الجذرية، تخلف التبعات ويبقى بعد ذلك عمق النتائج واتساع مجالها، فمنها ما يجر ذيله ويغور في النسيج الاقتصادي السياسي لفترة طويلة، ومنها ما يُضبط الى حين، إذا قُرئت النتائج قراءة صحيحة، وحُلت المشكلات المتسببة لهذه القضايا من جذورها، أما بعض هذه التباعات فإن أُهملت فإنها تنفجر بشكل عشوائي، وتلك هي الحقيقة الاولى.
ثانيا: الحقيقة الثانية مبنية على الحقيقة الاولى وهي ان الغرب اليوم (بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة) بدرجات مختلفة، ولكن بجوهر واحد، وصل الى قناعة تجاه الشرق الاوسط تبناها ساسته، هذه القناعة ذات فرعين أساسيين، وهما: أولا، ان تدفقا غير معوق للنفط للسوق العالمية، هو ضرورة حياتية للغرب، وثانيا، الحفاظ على الامن لشعوب تلك المنطقة. وقد تبين لمتخذي القرار في الغرب ان الامن لن يستتب عندهم إلا إذا استتب لدى جيرانهم في البلاد العربية، وهي جيرة قربتها وسائل الاتصال والاعلام الى درجة غير مسبوقة تاريخيا، وان هذا الامن نابع من توازن معقول في الشئون الداخلية لتلك البلدان، إذ ان اضطراب الامن عندهم - كما يرونه - يأتي احد اسبابه الرئيسية نتيجة الفوارق بين الحاكم والمحكوم في تلك البلاد، اي ما تسميه الادبيات الغربية غياب المشاركة الحقيقية وندرة حكم المؤسسات في البلاد العربية، وبالتالي لم تعد شئون العرب الداخلية داخلية بحتة، وخصوصا إذا اضطربت من دون تقنين، وانفلتت من دون ضبط، وإذا ضاق الامر على قطاعات واسعة من جماهير العرب اقتصاديا وسياسيا فإن الغرب يدفع ثمنا باهظا جراء هذا الضيق وذلك الاضطراب، هذا الثمن هو:
اولا: هجرة كثيفة من الفارين بسبب الضنك الاقتصادي او الضيق السياسي الى بلدان الغرب، مع ما تمثله هذه الهجرة من احتمالات الضغط الاقتصادي والاضطراب الامني لدى هذه المجتمعات.
ثانيا: قد يتحمل الغرب بسبب غضب تلك الفئات المحرومة من المشاركة، عمليات تخلخل الامن عنده من جذوره، كما حدث في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001م، وقد تحدث اشكال أخرى اكبر مما تم مع تقدم التقنية وسرعة انتقالها.
ثالثا: والامر كذلك فهناك مصلحة مشتركة وعاجلة للاصلاح الذي يجب ان يأخذ طريقه في قنوات السياسة في البلاد العربية لتقريب الهوة بين (الحاكم والمحكوم) وهو امر وإن كان مقاوما من البعض فقد حان وقته الآن، وهو يشبه الاصلاح المالي الذي فرضه الغرب من دون حرج شديد بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001.
رابعا: اما قنوات الاصلاح فهي اولا سياسية، فالاوضاع السياسية في بلاد عربية كثيرة تحتاج إما الى انشاء مؤسسات سياسية حديثة، تتقاسم السلطات مع الفصل بينها، او الى اعادة نظر في القائم منها وتقويمه لتحقيق المواءمة بين المصالح المختلفة، وان تُمكن هذه المؤسسات من وضع القوانين الحديثة، وخصوصا تلك المتعلقة بحقوق الانسان ومشاركته في السلطة والثروة، وتنظيم المعاملات وتثبيت عمل المؤسسات والحد من اشكال الفساد التي بدورها تحقن هذه المجتمعات بوافر من وقود الرفض والممانعة.
خامسا: ان تكوم هذه الاصلاحات موجهة ومنصبة في مصلحة الجماعات الاكبر والاقل قدرة على التنافس، كما يصبح المنفذون عرضة للمساءلة القانونية والمؤسسية.
الامر اذن يبدو من وجهة النظر الغربية جديا وحماسيا للنظر فيه الآن والدعوة اليه، فهذه المجتمعات ليست على استعداد لأن تأتي بجيوشها الجرارة إلى المنطقة كل عشر سنوات او أكثر لتطفئ حرائق تسبب في إشعالها آخرون بلعبهم بالنار، أو بسبب تجاهل مطلق لمتطلبات شعوب شبت عن الطوق، ووفرت لها العولمة سبل الاتصال والمعرفة من جهة، وحررتها من النظر الى تجارب القريب الاسوأ، الى البعيد الافضل، ومقارنة الاثنين مقارنة واقعية واستخلاص الدروس من جهة أخرى.
بعد هذا العرض السريع لما نوقش في ذلك اللقاء الموسع، إذا أضفنا إليه الوافر من البيانات والتصريحات العلنية التي تبناها الساسة الغربيون، والمناقشات المستفيضة المطروحة في الصحف والدراسات الغربية التي تحثنا على النظر بجدية الى المستقبل العربي فإن الخيار امام العرب، بدرجات مختلفة وفي دول مختلفة، إما ان ينهضوا بإصلاح ربما يكون له ثمنه الآن، ولكنه ثمن لن يكون كبيرا اذا قارناه بما سيمكن ان يدفع لاحقا من أثمان في حال التأخير والتسويف والبحث عن حجج لها، أو ان يخاطروا ببقاء الحال على ما هي عليه وفتح جبهات مع الغرب، الذي لم تتأخر مؤسساته الرسمية والاهلية والاعلامية ايضا عن نبش كل السوءات وعرضها، وتشجيع كل الاصوات التي تنادي بالتغيير واحتضانها.
لقد فات المنطقة ان تستفيد من دروس ما حدث في إيران وما حدث ليس بقليل، صرفت فيه الكثير من الطاقة ومن الدم ايضا، ثم فاتها ان تستفيد من دروس واضحة مما حصل في سنة 1990، من احتلال وتحرير للكويت ودروسهما العميقة، فاعتقدت ان الامر لن يطول لعودة الامور الى ما كانت عليه، وأما الحرب القائمة الآن في العراق فهي حرب دفعت ملايين من البشر في الغرب الى الشوارع وطرحت المشكلات العربية على سطح الحوادث والمناقشات، وأريقت على جوانبها الكثير من الاحبار والدم ايضا، كما كلفت خزائن الغرب اموالا طائلة. كل هذا جعل مكنة الغرب السياسية والاقتصادية والاعلامية تتحرك لاستطلاع المستقبل والعمل على تشكيله. ونحن الآن في مفترق الطرق، كيف يجري الاصلاح بعد ان تسكت المدافع، أبيدنا وهذا اهون؟ أم بيد غيرنا يجرى التغيير والاصلاح وهم يبحثون الآن في تفاصيله، ذلك هو السؤال؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 214 - الإثنين 07 أبريل 2003م الموافق 04 صفر 1424هـ