العدد 214 - الإثنين 07 أبريل 2003م الموافق 04 صفر 1424هـ

حوار الحياة... الطبيعة في مقابل التنشئة

يرى سقراط انه يمكننا التوصل إلى الحقيقة من خلال الحوار فقط بحيث نفضل مقترحا على الآخر. وبعدها لاحظ كارل ماركس أن الحياة جميعها تقوم على الحوار. فعلم البيئة هو حوار، وكذلك كل أنواع الخطاب بين البشر، وكل العلاقات بين الأشياء الحية هي حوار أيضا.

فالحوار يبدأ من داخلنا، وكما يصفه «مات ريدلي» بشكل جميل في كتاب Nature via Nurture، فإن جيناتنا في نقاش مستمر بكل ما يحيطها. فالجينات ليست بصمات تنقل وصفات الحياة من داخل النواة فحسب، بل إنها تمثل لاعبين نشطين مشغولين في عمل شاق منذ وقت الحمل، منتبهين بشدة لكل ما يدور حولهم.

وهكذا فالحياة ليست الطبيعة (التي يرمز لها بالجينات) في مقابل التنشئة (البيئة)، بل إن الطبيعة تعمل من خلال البيئة. فكل جين لديه القدرة على القيام بوظائفه، ولكن العمل الذي يقوم به، في داخل أي شخص (أو شجرة فطر أو سنديان) يعتمد بشكل كبير على ما هو مسموح له بعمله، من قبل الجينات الأخرى، في باقي الخلية، والجسد، والبيئة بشكل كبير.

إن حقيقة هذا الأمر يمكن تفسيرها بمليارات الأمثلة، وقد قدم ريدلي أهدافا مختارة بدقة أو ما شابه. على رغم ان دراسات توين لها تاريخ مظلم، في العصر الحديث، إلا أنها موضحة بشكل كبير. وهكذا فان الناس يتحدثون بشكل اعتيادي عن«دورة العنف»، أي أن الأطفال الذين يتم ضربهم من قبل والديهم يميلون لضرب أطفالهم - ويتم استغلال هذا الأمر بشكل كبير في هذا العصر الفرويدي الساكن إذ ان كل جيل ببساطة يتعلم عاداته السيئة من الجيل الذي يسبقه.

ولكن إذا كان لدينا تواءم متطابقة من عائلة يتسم أفرادها بالعنف وتم تبني أحدهما من قبل أشخاص لطيفين وغير عنيفين، فلاتزال هناك احتمالية لأن يصبح طفلا مؤذ يضر الأطفال الآخرين. ولكن احتمالية إظهار الطفل المتبنى لسلوك عنيف يعد أقل احتمالية من إظهار العنف من قبل الطفل الآخر الذي بقي في جو العنف نفسه الذي ولد فيه. إن الاستعداد للعنف إلى حد ما غريزي.

لكن مثل هذه الدراسات الرسمية مكلفة وصعبة، ولكن كما يقول ريدلي تبدو النتائج بديهية، فمن يشك في أن«الطبيعة» و«التنشئة» تلعبان أدوارا معينة؟ إن الفكرة تدوي في جميع أنواع الأدب ففي الكثير من القصص الشعبية، يظهر نبل أبناء النبلاء دائما، حتى لو كانوا يرتدون ملابس قروية رثة، وفي الكثير من الأفلام، يتم ترويض راعي البقر القاتل من قبل أرملة طيبة يقع في حبها، وكذلك بسبب إعجاب ابنها الصغير.

إن مهمة الخبراء والمفكرين هي تحسين الحكمة الشعبية، فهم يميلون أولا إلى القول بان البديهة هي الدليل البسيط جدا ثم يتبنون بعض المواقف المتطرفة التي تحتقر البديهة، كما أن المجتمع إلى حد كبير يكافئ المتطرفين ولكن عندما يسود التطرف تعاني البشرية.

وفي القرن العشرين على وجه الخصوص نعاني بشكل كبير من المواقف المتطرفة في الجدل بشأن «الطبيعة - التنشئة». إن مدرسة «إرادة الطبيعة هي كل شيء» أظهرت «الحتميين الجينيين» الذين يتضمنون علماء تحسين النسل والذين يرون انه من المناسب تحسين السلالة البشرية بالتوليد الانتقائي، كما يتم توليد الماشية. وفي بدايات القرن العشرين كان علم تحسين النسل موضة تم اعتناقها من قبل أشخاص بارزين من علماء الاجتماع مثل جيه بي شو والويبز، بينما اقترح ويليس بقوة التخلص من أي شخص تقريبا لا ينتمي إلى الطبقة الوسطى من القوقاز. وتمت معارضة علم تحسين النسل من قبل الكاثوليك ورجال الكنيسة مثل جيه كيه تستيرتون وكونان دويل، ولكن الكثير من الدول الأخرى (وخصوصا الولايات المتحدة) قامت بتعقيم الكثير من الأشخاص الذين تراهم غير أكفياء.

وكما يشير ريدلي، فان مدرسة «البيئة هي كل شيء» يمكن أن تتسم بالعنف على حد سواء. ستالين وبول بوت ، في نصوصهما غير المتزنة عن ماركس يعتقدان أن أي احد يمكن أن يصبح أي شخص إذا تم تكييفه بشكل مناسب. والعلاج الذي سلم إلى ادوارد ويلسون كان أقل رعبا ولكنه سيء، وقد أسس ادوارد علم الاجتماع البيولوجي - الذي يقوم على فكرة أن تفضيل الإنسان أو كرهه إلى حد ما هو أمر متوارث، وان هذه الفكرة تتطور تماما كما تتطور أجسادنا. للتصريح إذن، يبدو أن الفرضية المركزية لا يمكن إنكارها، ولكنها كانت تعاكس المزاج السياسي في الثمانينات.

الميزة المفيدة للجدل بشأن الطبيعة - التنشئة وهو الجدل الذي أفزع القرن العشرين، وهو كيف يمكن أن يكون الإنسان فظا. فالمواقف المتطرفة التي نجدها جذابة تصبح عقيدة يعتنقها الآخرون، وان أي محاولة لدراسة هذه العقيدة بغرض تحسينها، يمكن النظر إليها على أنها هرطقة، ويتم عقابها من دون شك كما يسمح به المجتمع: بالأوتاد، أو بغرفة الغاز، أو بالكرسي الكهربائي، أو بكأس ماء بارد في الوجه. وبسبب حبنا لهذه العقائد وخوفنا من الهرطقة فإننا لم نتقدم ذرة واحدة منذ العصور الوسطى.

هناك جانب آخر، فبعض الكتاب الحديثين مثل ستيفن روس وريتشارد ليونتين، أكدوا التأثير المتطرف للبيئة، واستنكروا باستمرار أجندة علماء الاجتماع البيولوجيين. آخرون مثل ريتشارد داوكينز وستيفن بنكر اخذ ينظر إليهم على أنهم مناصرون لنظرية الجينات. ولكن كلا المدرستين تؤكدان انه في الوقت الذي يمكنهم فيه رؤية كلا الجانبين، فان خصومهم هم الذين يعدون متطرفين خطرين، ولكن كلا الجانبين أشار إلى الأهمية الكبرى لكل من الجينات (الطبيعة) والبيئة (التنشئة).

يقدم ريدلي في كتابه سلسلة من الاقتباسات من الجميع (ومن آخرين غيرهم) ويدعو القارئ إلى تخمين من كتب ماذا، وبالطبع لا يمكننا فعل ذلك فجميعهم يقولون الأمور نفسها ولكن ذلك لم يوقفهم عن صراعهم الدقيق القديم. وكما يقال في يورك شارير (وربما يكون هذا هو العبارة النهائية للطبيعة البشرية)، ليس هناك شئ بغرابة الإنسان. إن مصطلح «الكاتب العلمي» له دوي سيء، إذ يبدو انه يشير إلى طابعات تعمل كالرقيق في تسجيل أية حكمة يقدمها العلماء، باستخفاف. ولكن بعض الكتاب العلميين يوضحون أن مهنتهم نبيلة وقيمة، وليست مجرد أفكار تجعلهم يتصلون بالآخرين، ولكن أيضا تهذبهم، وغالبا تسير بهم نحو الأمام. ينتمي ريدلي إلى الزمرة التي تدفع العلم إلى الأمام، وتضعه في إطار الثقافة الواسع. إن كتاب الطبيعة من خلال التنشئة Nature Via Nurture هو إسهام رائع يضاف إلى الأعمال الأدبية البارزة.

خدمة الاندبندنت - خاص بـ «الوسط





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً