كنت أسخر من أساطير اليونان التي تتحدث عن تصارع آلهة الشر وإثارتها للحروب والفتن... وهل الشر يتصارع؟
إن القيمة التعليمية التي يُؤكَّد عليها في التربية والتعليم ان «الصراع بين الشر والخير لا بين الخير أو بين الشر»، ولكن ما أذهب سخريتي صراع صدام الطاغية الذي لبس ثوب القديس العارف الالهي بين ليلة وضحاها مع داعية السلام وحقوق الانسان والديمقراطية على الطريقة الأميركية، بوش الابن. عجبي، هل صدام الذي تقطر يده من دماء الشعب العراقي، كما قال الشهيد السيد مهدي الحكيم: «ان صدام لم يعدل في أي شيء إلا في ظلمه الذي ساوى به جميع طبقات وفئات الشعب العراقي»، والذي رضع من ثدي النظام العالمي الجديد حتى نبت لحمه وقوى عظمه وامتلك ما امتلك من أدوات البطش والطغيان، يصارع بوش سليل النظام الصهيوني الذي مهد لصدام وأعوانه الى السلطة بقطار أميركي.
إنها حيرة المرء في هذا الصراع الذي جسد صراع أشرار أساطير اليونان. ماذا يفعل الحر الأبي الذي كوى ظهره حر حديد صدام وانحنى بفعل قنابل بوش الذكية؟ هل يرفع صور صدام عاضّا على ألمه صارخا «بالروح، بالدم نفديك يا صدام»، سلاحا يريد به مواجهة الغزاة المحتلين المعتدين أم يستقبل بالورود الجندي الغازي الذي جاء ليمرغ كرامته ويستهين بمقدساته ويستحوذ على ثروته كي يخلصه من استبداد وطغيان زعيم «القادسية» و«أم المعارك» و«أم الحسوم».
إنها لعمري حيرة تزداد مع كل يوم من أيام الحرب التي يتساقط فيها الأبرياء البؤساء بالصواريخ الموجهة بالأقمار الأصطناعية آخر تقنية في قتل الكرامة والإباء. ماذا كنت تفعل لو كنت العراقي المغلوب على أمره وهو يستقبل المعتدي بوجهه ويستند بظهره الى نير الاستبداد؟ ما الأولوية القصوى يا ترى؟ انه سؤال سوفسطائي لا قيمة له، وقد تمت الإجابة عليه في ساحات الوغى.
إن العراقي الأبي الراضع من ثدي نهضة الحسين بن علي «هيهات منا الذلة» ومدرسة كربلاء «لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد»، أجاب من دون تلكؤ أو توان، لا تحت ضغط بنادق «فدائيي صدام» أو استثارة لقصف العدوان. انه وعى درسه وعرف واجبه فخرج لاستقبال الردى بوجه ضاحك بشوش.
ولكن لماذا لسنا مع العدوان أولا وليس ضد صدام؟
إذا ما تجاوزنا المبررات الانسانية والدولية والاسلامية التي بمجملها ترفض هذا العدوان الغاشم برمته اذ لم تشهد الانسانية في تاريخها الطويل إلا ما ندر وقل عدوا غازيا اقتسم الغنائم قبل اغتنامها. عدو لم يكتفِ بثروات الأرض والسماء للاستحواذ عليها بل يريد حتى قلبك الذي به تذعن لرب الوجود وعقلك الذي به تسلك الحرية. انها حرب ان لم ينتصر بها الانسان لم تقبل منه بيعة بأقل من «بايع عبدا قنّا لربك الجديد بوش».
كم جاء هذا العدوان عاريا مكشوف العورة مثيرا للاشمئزاز حتى من أقرب المقربين. فهذا جيمي كارتر الرئيس السابق يواجه الحرب في مقاله «الحرب العادلة أو عدالة الحرب»، في جريدة نيويورك تايمز قائلا: «ان هدفنا المعلن تغيير النظام والهيمنة الأميركية على المنطقة وربما احتلال بلد مجزأ عرقيّا لعقود. لكل هذه الأهداف المعلنة لا تملك شرعية».
وقالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين اولبرايت بعد تشديدها على أهمية العمل تحت المظلة الدولية في مقالها «أين نضع العراق في الحرب على الأرهاب» المنشور في الـ «نيويورك تايمز»: «من الحماقة ان نوجه انظار العالم وقدراتنا العسكرية ومصادرنا الدبلوماسية والمالية الى مخطط احتلال العراق بدلا من القاعدة الذي يؤدي الى قتل الأبرياء».
وقد عرى الكاتب الصحافي الأميركي الجريء توماس فريدمان مقاصد بوش العدوانية على العراق في مقاله «حرب النفط» المنشور في الصحيفة نفسها: «أقول ان الحرب على العراق جزء منها لأجل النفط، وإلا فمن المستحيل ان نفسر سلوك فريق بوش بخلاف ذلك. انهم يذهبون وراء صدام بالفرقة الثانية والثمانين المحمولة جوا ويواجهون كوريا الشمالية بـ «دبلوماسية قفازات الأطفال». كوريا الشمالية التي تملك السلاح النووي والصواريخ التي يمكن لها نقل الرؤوس النووية والقرائن التي تثبت بيع الأسلحة الخطرة لكل من يتقدم بمئة ألف دولار نقدا. قواتنا التي تقع في مرمى صواريخها وزعيم في قسوته وظلمه لشعبه يفوق صدام».
ان الشعب العراقي اختار طريقه وسلم امره لربه عازما على دحر العدوان وتطهير أرض العراق الطاهرة من الغزاة المعتدين. وأما بعد ذلك وحين تشرق شمس النصر ودحر العدوان هل سيبقى صدام جاثما على صدر العراقيين يذيقهم الهوان ويسقيهم كأس الطغيان.
كلا وألف كلا...
انه خلاص ساقه الله للعراق كي يكون لأهله الخلاص من عدوين بضربة قاضية واحدة، صدام والعدوان. إن صمود الشعب العراقي يختزن في مضمونه المقاومة للعدوان والاستعداد للقضاء على صدام.
أما كيف؟ وأين؟ وبأي شكل؟ فالأيام المقبلة حُبلى بالمفاجآت والصبح أوشك على الانبلاج.
أما نحن فما دورنا في هذه الحرب الضروس؟ وماذا نجني من أتون هذه المعركة لنصنع منها درسا بليغا وعبرة نتجنب بها عثرات المستقبل.
الدور الحيوي الأول والمهم هو الحضور الواعي والتلاحم مع الشعب العراقي الصامد ودعمه ماديا ومعنويا. وأما الدور الاستراتيجي المستقبلي فيتمثل في التلاحم مع القيادة السياسية من خلال دفعها إلى تفهم ضرورة الاصلاح السياسي وإشراك الأمة في القرار السياسي ليتلاحم من خلال هذا الاصلاح الشعب بالقيادة في وقت لا يضمن حفظ الوطن والمواطن والقيادة إلا هذا التلاحم.
ولتكن الاصلاحات المرجوة ذات صيغة تراكمية لا انقلابية لتضمن الاستقرار والبيئة التي تساهم في تحسين قدرات المواطن الثقافية في مضمار الشورى وإبداء الرأي وتجذر الاصلاح ورسوخه في بنية النظام السياسي.
فلا مناص لنا في هذا الزمن الحرج إلا الصدق في مراجعة الذات ونقدها. كما لا مناص للشعب العراقي الصامد من مواجهة نيران العدو الغازي بوجهه وفوهات بنادق صدام الطاغية بظهره
العدد 210 - الخميس 03 أبريل 2003م الموافق 30 محرم 1424هـ