كانت جروح الضحايا غائرة وعميقة. وبقع أخرى قرمزية شائنة على الـظهور والافخاذ أو الوجوه. إذ أحدثت شظايا القذائف العنقودية جروحا بعمق بوصة أو أكثر في بشرة الضحايا. إن أجنحة مستشفى الحلة التعليمي تثبت أن شيئا محرما - خارج اتفاقات جنيف - قد حدث في القرى المحيطة بمدينة بابل. أطفال يصرخون ونساء شابات يتألمن من جروح في صدورهن وأرجلهن. مرضى آخرون يجري لهم الأطباء عمليات جراحية في المخ لاستخراج شظايا معدنية من رؤوسهم. كان كل الحديث في الليل والنهار عن كيفية تساقط القنابل العنقودية «كالعنب» من السماء، اذ أكد الأطباء أنها فعلا قنابل عنقودية.
اذا هل هي الطائرات الأميركية والبريطانية التي أمطرت هذه القرى باحد أكثر الأسلحة فتكا في الحرب الحديثة؟
لا يستطيع أكثر من 61 من الموتى الذين فقدوا أرواحهم في المستشفى منذ ليلة السبت الماضي ان يجيبوا عن سؤالنا.
وحتى الناجون لا يستطيعون ان يجيبوا عن السؤال، فكثير منهم كانوا يجلسون داخل بيوتهم عندما انصبت عليهم القذائف من ارتفاع شاهق فوق قريتهم، إذ سقطت آلاف القنابل العنقودية من السماء وهي تنفجر في الهواء، وتستعر من خلال النوافذ والأبواب أو تتجه نحو الأسقف في الأكواخ المبنية من الخرسانة ومن ثم تتحول إلى الطرقات.
قالت «رهد حكيم» انها تتذكر أنه في الساعة 30:10 من صباح الأحد الماضي عندما كانت جالسة في منزلها في حلة نادر، سمعت «صوت انفجارات» وعندما نظرت من خلال الباب رأت السماء تمطر نارا، وقالت إن القذائف رمادية داكنة.
وقال «محمد موسى» واصفا القنابل العنقودية ذات الصناديق الصغيرة بأنها «فضية اللون». وقال إنها تساقطت «كحبات عنب صغيرة». وأضاف: « اذا لم تنفجر هذه القنابل وقام شخص بلمسها فإنها تنفجر فيه حالا. انها تنفجر في الهواء وفي الأرض، والآن لدينا كمية منها في منازلنا لم تنفجر بعد».
لقد مات كثيرون - غالبيتهم نساء وأطفال - حالا بفعل هذه القنابل بينما تتلقى الكلية الطبية التعليمية نحو 200 مصاب يوميا منذ السبت الماضي. أما الواحد والستون قتيلا فهم فقط الذين أحضروا إلى المستشفى أو ماتوا أثناء أو بعد العملية الجراحية، بينما يعتقد أن الكثيرين تم دفنهم في قراهم، وهؤلاء كما يقول الأطباء 80 في المئة منهم مدنيون.
وتشير الإحصاءات إلى أن المجندين يمثلون 40 في المئة فقط من سكان القرى، وكان من بين ملابس الموتى خارج باب المشرحة التي شاهدتها حزام عسكري وكاكي وجاكيت عسكري، ولكن القرويين يمكن ان يلبسوا هذه البدلات العسكرية وقد جزم الرجال والنساء وبناتهم وأبناؤهم انه لا توجد منشآت عسكرية حول قراهم. ولا أعلم ان كان ذلك صحيحا أم لا؟
مَنْ يعلم، ربما كانت هناك منصة لإطلاق الصواريخ قد نصبت بالقرب منهم كما هو الحال بجانب الطريق السريع شمال بغداد أمس الأول. ولكن معاهدات جنيف تدعو إلى حماية المدنيين حتى ولو اختلطوا بالعسكريين، كما ان استخدام هذه القنابل العنقودية على القرى - حتى ولو استهدفت مواقع عسكرية - يعتبر اختراقا لحدود القانون الدولي.
وطبعا، كانت السلطات العراقية على استعداد للسماح للصحافيين بالاطلاع على أحوال هؤلاء المصابين في مستشفى الحلة. ولم يكن هناك مجال ليحكي لنا الأطفال والآباء الأميون قصة مآسيهم وآلامهم. وقد حاول فريق من تلفزيون (سكاي نيوز) احضار مجموعة من تلك القنابل العنقودية التي لم تنفجر إلى بغداد.
وأتساءل مرة أخرى هل هذه الطائرة التي اسقطت هذه الأسلحة المرعبة أميركية أو بريطانية؟ أخبرنا نائب رئيس مستشفى الحلة وبعض أطبائه رواية مشوشة لذلك الهجوم العسكري على المدينة في الأيام الماضية، وأن مروحيات أباتشي تابعة للقوات الخاصة الآتية من طريق كربلاء أخطأت عملياتها عندما أجبرها رجال المليشيا على التراجع، ولذلك وبعد فترة قصيرة بدأ الهجوم بالقنابل العنقودية على القرى.ومن الواضح انه لا يوجد خط دفاع أول في القتال حول بابل، اذ تهاجم القوات الأميركية الأراضي حول نهر دجلة جوا ومن ثم تنسحب، وكذلك تفعل القوات العراقية الشيء نفسه في الجانب من النهر. طبعا، يمتلك البريطانيون والأميركان التفوق الجوي، وفي الواقع لا توجد طائرة عراقية واحدة اقلعت منذ بداية الغزو الانجلو - أميركي، وحتى قادة التحالف في رئاسة القيادة الوسطى بقطر لا يستطيعون الزعم بأن القنابل العنقودية أسقطها الجانب العراقي.
وكانت آخر الغارات الحديثة أمس الأول أدت إلى ازهاق حياة أحد عشر مدنيا - من بينهم امرأتان وثلاثة أطفال - في قرية الهندية. وأخبر الرجل الذي أُرسل إلى جمع الجثث مسئولي المستشفى بأنه لم يتبق شيء حي في المكان إلا دجاجة واحدة. وقد أمرت السلطات العراقية قواتها بتفجير القنابل التي لم تنفجر بعد.
ومن نافلة القول إنها ليست المرة الأولى التي تستخدم قنابل عنقودية في المنطقة. ففي الحصار الإسرائيلي لبيروت الغربية العام 1982، اسقطت قواتها الجوية قذائف عنقودية من صنع البحرية الأميركية في مناطق عدة من المدينة، وخصوصا في أحياء الفاكهاني والأوزاعي مسببة جروحا عميقة شبيهة بالتي شاهدتها في مستشفى الحلة. وقد سبب الغضب من حادث بيروت وقف ريغان شحنة مقاتلات إلى «اسرائيل» لأن هذه القنابل مخصصة للأهداف العسكرية، ولكن بعد أسابيع قليلة سمح لتلك الطائرات المقاتلة بتمريرها إلى «إسرائيل»!
ليس من السهل الاستماع إلى المسئولين العراقيين وهم يشجبون استخدام الأسلحة المحرمة بواسطة القوات الأميركية وسلاح الجو الملكي عندما يعلم أن القوات الجوية العراقية نفسها اسقطت الغازات السامة على الجيش الإيراني والقرى الكردية المؤيدة لإيران أثناء الحرب ضد إيران 1980 - 1988. إن الغضب الذي يثيره المسئولون العراقيون بانتهاك الغزاة الأميركيين والبريطانيين لحقوق الإنسان يبدو وكأنه قرع لجرس أجوف. ولكن الحادثة المروعة التي وقعت في الحلة الأسبوع الجاري لا يمكن اغفالها فضلا عن مناقضتها للقانون الدولي. كما ان المرء يتردد في احيان كثيرة عندما يتحدث عن حقوق الإنسان في أرض التعذيب هذه. ولكن اذا لم يحترس الأميركيون والبريطانيون مما فعلوه في الحلة فإنهم سيجدون أنفسهم مدانين بالشيء ذاته الذي يتهمون به العراق ألا وهو جرائم الحرب
العدد 210 - الخميس 03 أبريل 2003م الموافق 30 محرم 1424هـ