إن المتتبع لأزمة البطالة، منذ انطلاق شراراتها الأولى (العام 1973)، التي لا يدركها شباب الأجيال الحاضرة من كتاب ودارسين وباحثين ومحللين، وبعض التجار والمقاولين والمهنيين حديثي المهنة، ناهيك عن من لا يهمهم موضوع البطالة، لا من قريب ولا من بعيد، ولا تحت أي ظرف من الظروف، ولا بأي حال من الأحوال، وماذا عسى أن تسببه البطالة من انعكاسات سلبية وما تخلفه من اضرار خطيرة على مجتمعنا، أولئك هم أصحاب رؤوس الأموال الاجنبية الباحثون عن الربح بأرخص الاثمان وأقصر الطرق، ولا حتى المكتوين بجحيم نيران البطالة في ظاهرتيها (الوطنية والأجنبية). إذ في ظاهرة انعكاسات آثارها السلبية في حالتها (الوطنية)، تتجلى أخطر انعكاساتها على المستوى الاجتماعي في حال تسرب وانقطاع أبنائنا الطلاب عن مواصلة دراساتهم في مختلف المراحل الدراسية، بسبب بطالة أولياء أمورهم عن العمل وعجزهم عن توفير أدنى متطلبات الطالب المدرسية اليومية من مصروفات، وتوفير الكتب والدفاتر، ولباس محتشم يحفظ له كرامته، ويقيه الاحساس بالمذلة والدونية بين بقية الطلاب من ابناء (القوات)، والميسورين الذين يختالون في لباسهم، ويتلذذون بأشهى المأكولات التي ليس للمعدمين منها نصيب غير شم رائحة الشواء؟!
ولا أحسب ما استعرضناه من الانعكاسات السلبية للبطالة إلا مؤشرات تؤسس قواعد ومرتكزات تفرخ وتؤدي إلى ما هو اشنع منها خطورة، واكثر رعبا وتدميرا لمجتمعنا، إذ ان البطالة هي أم العوز، وأصل الحاجة، ومنبع القوة الشيطانية المرعبة والمحرضة على ارتكاب اي نوع من انواع الجريمة، لا حبّا، في ارتكاب الجريمة في كثير من الاحيان، ولكنها نتيجة حتمية للشعور بالاحباط والحرمان في ظل مجتمع أناني، تحكم علاقاته قوانين تحكم على الجريمة، ولكنها لا تأخذ في الاعتبار أسباب الجريمة، والذي لكي يكون، قانونا نزيها يجب ان يدين وبضعف القدر باعثي الجريمة ومؤسسيها، التي لو لم يكونوا لما كانت، من تجار الفري فيزا، المنتشرين كالسرطان في مختلف مفاصل مجتمعنا، مثل جرائم السرقات والسطو وادمان المخدرات، والسقوط في فاحشة اللواط، ورذيلة العهر، باعتبارها نتائج للشعور الذي تولده البطالة؟!...
ويظل سرطان البطالة يتنامى في بث سمومه واخطاره ويحطم العلاقات العائلية، خلايا المجتمع، كما مثلتها مأساة الطفلة «فاطمة» التي اسدل الستار عليها، وتجهز على الأخلاق وتقتل الضمير وتمسح الاحساس بالمسئولية الوطنية، كما جذرتها في جانب منها حوادث شارع المعارض، واستغلها اعداء الوطن والمندسون.
إن معالجة البطالة لم ولن تتأتى من خلال رؤية ميكانيكية ضيقة الافق تنص على إحلال العمالة الوطنية مكان العمالة الاجنبية بطردها خارج البلاد، ولكن من خلال علاقات انسانية متواسية ومتوازية بين العامل الوطني والاجنبي، مبنية على قدر من الاحترام والمحبة والترابط الانساني بين الطرفين، في ظل قانون عمل يساوي بين العمالة الوطنية والاجنبية ولا يفرق بينهما، ويتيح الفرص المتكافئة للجميع، ثم يطلق روح التنافس الشريف الحر بين مختلف الفصائل العمالية بمختلف مستوياتها الوظيفية والمهنية.
الا ان هذا الامر يحتاج أول ما يحتاج إلى، تخلّي المقاولين والتجار والمهنيين والشركات الاجنبية وغيرهم من فصائل العمل عن انانيتهم المفرطة وجشعهم القاتل، وان يكفوا عن صراخهم المزعج، بأن مصالحهم بما فيها الاقتصاد الوطني معرضة للتضرر من مجرد اجراءات وحلول ترقيعية لا تجدي نفعا بقدر ما تجلبه من أضرار تتمثل في محصلتها النهائية صرف مئات الملايين على ما تطلق عليه وزارة العمل (التدريب والتأهيل)، وهو ليس الا فرقعة وحتى تنتج ألف صفر من طحين، وآلاف الأرقام من جيوب المتصيدين والانتهازيين الجشعين، ذلك ان متصنعي الخوف على تضرر مصالحهم، والمتسترين وراء شعارات الحرص على الاقتصاد الوطني، ليسوا الا قطاعا من رافعي شعارات المصلحة الوطنية، ذلك ان شعاراتهم تفقد بريقها فيما لو تمت معالجة ما يبدونه من تخوفهم على تضرر مصالحهم بنزاهة، في خط متوازٍ مع ما يدعونه من حرص على مصلحة نمو الاقتصاد الوطني بوتيرة تصاعدية تراعي النمو السكاني وهي مسألة يحتاج الامر لبلوغها إلى قراءة ما بين السطور؟!.
نعم!... إنه لو اخضعنا ما سلف التطرق إليه إلى التحليل المنطقي المبني على ان (1 + 1 = 2)، لما تم اغفال ضخامة الضرر الذي يسببه تحويل العمالة الاجنبية مئات الملايين من الدخل القومي إلى الخارج في ظل اختلال التوازن بين ما تحتفظ به العمالة الوطنية من دخل يمكن إعادة تدويره في العملية التجارية، وما توفره العمالة الاجنبية من نسبة لا تكاد تذكر من دخلها المئات الملايين الذي تحوله إلى بلدانها لينعشوا بها الحركة التجارية فيها، وهذا ما يمكن ان تراه واضحا وضوحا مطلقا من اختلال معادلة التوازن بين عدد العمالة الاجنبية الطاغية، وعدد العمالة الوطنية المتواضعة، والتي سنتطرق اليها رقميا من خلال احصاءات ومراجع رسمية. ان كل هذه الارباكات هي النتيجة الحتمية، الذين يفرزها تجار الفري فيزا، ويساهم في تفاقمها التجار المقاولون وكثير غيرهم بإصرارهم على تشغيل العمالة الاجنبية تحت حجج عدم توافر الكفاءات الوطنية المؤهلة، الذين هم (التجار والمقاولون والشركات الأجنبية وتجار الفري فيزا) من سل عليها سيف الغدر والمجور والنكران، وهذا ستثبته بالدليل القاطع لنا حجم الافواه المتجنية على العمالة الوطنية...
على انه، ان ثلث تلك الموافق على شيء، فإنما تدل على ان اصحابها يثبتون جهلهم أو تجاهلهم بتاريخ عظمة عمالتهم الوطنية، التي رفعت اسم البحرين عاليا في بقاع كثيرة من انحاء العالم، وتلك هي ابشع انحطاطات الجهل وسحق الذات؟!...
إن للعمالة الوطنية تاريخا يشرف البحرين، على مستوى النظام والشعب، وعلى رأس الشعب الطبقة الوطنية الرأسمالية. وتقضي الاخلاق التباهي بتاريخ العمالة الوطنية والعمل على تطويرها وتشجيعها على التناسخ والتمدد والانتشار. والارتقاء الحضاري وعدم سفك دماء المؤسسين الأوائل لذلك التاريخ المشرف، والوقوف المؤسف في نهاية مطاف المسيرة التاريخية تجاه اداء وانجازات العمالة البحرينية موقف العداء الصريح. والاعتراف غير المباشر بأن البحرين، على رغم ماضيها الحضاري، وماضي تاريخها المجيد، عجزت عن ان تخلق لها عمالة وطنية مؤهلة ومدربة تسد حاجتها الداخلية من كل دول العالم، مع الاستعانة بعمالة اجنبية تقتضيها بعض مراحل الانماء وتأسيس البنية التحتية.
والملفت، انه منذ بدأت الصناعة النفطية العام 1932 وهانحن نعيش العام 2003، ما يعني مرور ثلاثة ارباع القرن، لم نستطيع ان نخلق لنا عمالة وطنية تسد حاجتنا. إنه افتراء ذلك انه لا يوجد في العالم بطوله وعرضه دولة، غير دول الخليج، تزيد فيها العمالة الاجنبية على العمالة الوطنية، وان الادعاء بعدم توافر عمالة وطنية مؤهلة، ليس الا نتيجة لعملية تحطيمية تآمرية بريطانية، في إطار «تهنيد الخليج، وتهويد فلسطين» هذه المؤامرة التي يكشف عنها كتاب «موقف بريطانيا من الوحدة العربية» وهو كتاب موثق يمكن الرجوع إليه، وما اظن الحرب الدائرة اليوم في العراق، إلا لتثبيت ما جاء في ذلك الكتاب.
وتأسيسا على كل ذلك فإن عدم الوصول إلى حل للبطالة ليس إلا رافدا يصب في روح المؤامرة البريطانية
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 210 - الخميس 03 أبريل 2003م الموافق 30 محرم 1424هـ