العدد 210 - الخميس 03 أبريل 2003م الموافق 30 محرم 1424هـ

قنبلة فراغية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أسقطت «القنبلة الفراغية» للمرة الأولى على مبنى سكني في منطقة الصنائع في بيروت ابان فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان في يونيو/حزيزان 1982. الهدف كان محاولة اغتيال ياسر عرفات، اذ وصلت معلومات عنه إلى المخابرات الاسرائيلية تفيد انه ينام في شقة في ذاك المبنى.

وكانت النتيجة مقتل سكان المبنى (المؤلف من سبعة طوابق) ونجاة عرفات من الموت.

بعد فشل عملية الاغتيال شاع خبر القنبلة. وتبين انها من آخر ابتكارات الصناعات الحربية الأميركية، وارادت الولايات المتحدة اختبارها فأعطت كمية منها لحليفها الاستراتيجي في «الشرق الوسط» في ابريل/نيسان. واستخدمت بنجاح في بيروت، الامر الذي شجع إدارة واشنطن على شراء كميات هائلة منها لمخزون الجيش الأميركي.

لا تعتمد «القنبلة الفراغية» على قوة التفجير، بل على مبدأ «التفريغ». فالهدف لا يفجر بل يفرغ... ثم يتكفل التفريغ بالباقي؛ فالقنبلة تنفجر محدثة فجوة في مكان الهدف ويبدأ المكان بالتداعي والتساقط بسبب التجويف وتفريغ منطقة الاصابة الأولى من الهواء. وبسبب الفراغ يعاود الهواء الرجوع بقوة إلى مكانه، الأمر الذي يشد (يجذب) كل محيطه إلى نقطة الانفجار فتتحطم كل الاشياء المجاورة بسبب قوة الاندفاع إلى منطقة الفراغ فيحصل التداعي.

ويبدأ التداعي يتساقط طابقا طابقا إلى أن ينهار المبنى كله بفعل ضغط الهواء وجاذبية الفراغ. واخطر ما في «القنبلة الفراغية» انها تحدث الدمار الهائل من دون ضجيج. فهي قنبلة صامتة، تعتمد مبدأ الصدمة الأولى (دوي انفجار خفيف) ثم يتداعى المكان في لحظات بصمت ومن دون ضجيج. فالقنبلة الفراغية تقتل بصمت وهدوء ومن دون أصوات فرقعة وانفجارات. انها تجوِّف المكان بسكون وتفرغه من الهواء والسكان. ومن الصعب سماع صوتها ولكن يمكن مشاهدة آثارها بعد حصول الصدمة.

يتشابه الكلام عن «القنبلة الفراغية» مع الصور المفزعة التي تتناقلها وكالات الأنباء ومحطات التلفزة عما يحصل في العراق. فتلك الصور والمعلومات والحقائق ازعجت واشنطن وأثارت غضب لندن. فالتحالف اراد تجويف العراق عن طريق الصدمة الأولى، ومن ثم يبدأ التداعي والتساقط اعتمادا على مبدأ التفريغ، لا قوة التفجير.

إلا ان حسابات البيت الأبيض لم تتطابق مع واقع العراق. فالصدمة الأولى لم تحدث التجويف المطلوب ولم يحقق مبدأ التفريغ مبتغاه حين صمدت الأبنية العراقية (مدنه وجماعاته) من جنوبه إلى شماله. فالصمود كشف الصوت وجاءت المشاهد لتكشف نتائج استراتيجية القتل الصامت والهادىء. وفي هذا المعنى انتصر صمود العراق سياسيا على رغم هزيمته العسكرية التي لا نقاش عليها وحولها.

فالعالم سمع وشاهد وتابع ونظر وقرأ نتاج كل ما فعلته آلة الحرب وقنابلها الفراغية. والعالم الآن بدأ يقول: «كفى». واذا اردتم انجاز مهمتكم فانجزوها بسرعة وبأقل كلفة وبالحد الأدنى من الضحايا!

والسؤال: كيف يمكن ان ينتصر العراق سياسيا ويهزم عسكريا؟ ولماذا يصمت العالم (الأمم المتحدة) أمام هول ما يحصل ويحدث للعراق؟ الجواب هو نفسه: القنبلة الفراغية.

قبل العدوان على العراق ضربت واشنطن مبنى الأمم المتحدة بما يشبه، وربما أخطر، من تلك القنبلة. استخدمت إدارة البيت الأبيض مبدأ التجويف السياسي وتفريغ الأمم «المتحضرة» من حسها الإنساني دافعة دول المبنى إلى التدافع والتضارب والتساقط بفعل قوة تفجير الصدمة الأولى... وبعدها بدأ تداعي الدول واحدة بعد أخرى مندفعة نحو جاذبية المصالح والتكاتف على نهش أشلاء الضحية وتقطيع «الغنيمة» إلى أجزاء وحصص.

ما يحصل الآن في الأمم المتحدة هو نوع من التجويف السياسي... ويأتي محصلة عامة لمفعول تلك «القنابل الفراغية» التي القيت على العراق طوال الأيام الماضية. والآن تأتي الدول الكبرى، بما فيها تلك التي وقفت ضد فكرة الحرب ورفضت القبول بنتائج العدوان، إلى طاولة المفاوضات للبحث في صيغة تقاسم مستقبل العراق في فترة ما بعد صدام حسين.

من حق الدول الكبرى ان تبحث عن بقايا مصالحها، وخصوصا حين نجد في المجموعة العربية كمية دول لا مشروع سياسيا يجمعها سوى الخطابات الحماسية والموضوعات العاطفية والإنشائية. من حق هذه الدول تبحث عن موقع لها في بلاد شاءت المصادفات ان تختارها القوة الأولى في العالم ميدان اختبار لقنابلها الفراغية بقصد تفريغ مجلس الأمن من دوله الكبرى.. الا انه ليس من حق تلك الدول بعد عشرات الخطب والبيانات والتصريحات ان تعلن تأييدها للولايات المتحدة لحسابات «سياسية واقتصادية». فالدفاع عن المصالح مسألة مختلفة عن تأييد نهج عدواني يمكن ان يتحول إلى استراتيجية عامة تعتمدها الولايات المتحدة مع دول اخرى تنتظر دورها.

استخدمت «اسرائيل» القنبلة الفراغية للمرة الأولى في بيروت، وتستخدمها واشنطن الآن في بغداد. وهدفها البعيد ليس العراق... وانما النظام الدولي في الأمم المتحدة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 210 - الخميس 03 أبريل 2003م الموافق 30 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً