جاء تعقيب ديوان الخدمة على مقالي الأخير بشأن مخالفة لائحته التنفيذية لقانون الخدمة المدنية معنونا كالآتي:
«اللائحة التنفيذية أخضعت لمراجعة قانونية وفنية» .
لقد أشرت في مقالي السابق إلى بضع أمثلة من أحكام جديدة أقحمتها المراجعة القانونية والفنية للديوان في لائحته بسبب قراءة خاطئة لمواد القانون، مستغلة في هذه المراجعة مسألة عدم عرض اللائحة التفيذية على السلطة التشريعية لتضمينها بعض ما تم رفضه من قبل المجلسين. ولكي لا نطيل على القارئ نركز في هذا المقال على نقطتين فقط وهما:
أولا - شمول شاغلي الوظائف التنفيذية بالعمل الإضافي:
يصر ديوان الخدمة في لائحته التنفيذية على شمول شاغلي الوظائف التنفيذية من غير المعينين بمرسوم أو قرار بتعويضات العمل الإضافي على رغم وضوح النص في المادة (33) من القانون التي استثنت شاغلي الوظائف العليا ومن في حكمهم. والوظائف العليا تم تعريفها في المادة رقم (2) من القانون على أنها الوظائف التي يعين شاغلوها بمرسوم أو بقرار أو من في حكمهم، أي من هم على درجات مساوية على الجدول التنفيذي الذي يضم الوظائف العليا.
وعودة إلى الوراء فقد اقترح ديوان الخدمة عند مناقشته القانون في مجلس الشورى منح شاغلي الوظائف التنفيذية تعويضا عن العمل الإضافي، إلا أن المجلس رفض للديوان هذا المقترح، وهكذا تم استبعاده بإضافة كلمة «ومن في حكمهم» على نص المادة (33) من القانون منعا لتضارب المصالح لكون شاغلي الوظائف التنفيذية مسئولين عن إقرار صرف العمل الإضافي لمرؤوسيهم. إلا أن ديوان الخدمة فاجأنا بإصراره على تضمين ما لم ينص عليه القانون في لائحته بحسب ما جاء في المادة (136) التي أجازت العمل الإضافي للموظفين التنفيذيين من الدرجة الأولى حتى الرابعة التنفيذية. والتي مع استبعاد المديرين والوكلاء، تشكل شريحة كبيرة من شاغلي الوظائف العليا.
لقد بنى مجلس الشورى رفضه لمقترح ديوان الخدمة على الحقائق الآتية:
1 - إن طبيعة عمل شاغلي الوظائف التنفيذية من مديرين ووكلاء ومن في حكمهم تختلف عن الوظائف الفنية والكتابية المشمولة بالعمل الإضافي وذلك من حيث قياس وحدات العمل المنتجة. فمن مهام الموظف التنفيذي حضور الاجتماعات خارج الدوام الرسمي واستقبال الضيوف وحضور المناسبات الرسمية، وكلها مهام مرتبطة بطبيعة عمل الوظيفة.
2 - إن طبيعة العمل هذه قد أخذت في الاعتبار عند تصنيف الوظيفة، أي عند تحديد درجتها ومستوى راتبها. من هنا لا يجوز التعويض مرتين، وإلا وقعنا في إشكالية ازدواجية التعويض.
من هذا المنطلق فإن عدم جواز تعويض التنفيذيين عن العمل الإضافي هو عرف عالمي متفق عليه. إن الإشكالية التي وقع فيها المسئولون بديوان الخدمة هو توسيع قاعدة شاغلي الوظائف التنفيذية دونما اعتبار لقواعد التصنيف الوظيفي التي أسسها الديوان في عصره الذهبي.
ومن ضمن البدع المضحكة هي تسكين بعض الأطباء على الجدول التنفيذي، وهم المشمولون أساسا بالجدول التخصصي كغيرهم من وظائف المهندسين والمحاسبين. فخرج لنا الديوان بخلطة كوكتيل غريبة خلطت جداول الأجور وألغت الغرض من وضع جداول بحسب طبيعة المهن.
إن توسيع قاعدة الوظائف التنفيذية دونما أساس علمي، ومن ثم شمول شاغلي هذه الوظائف بتعويض العمل الإضافي شكل عبئا ماليا كبيرا على موازنة الباب الأول نظرا إلى ارتفاع أجور هذه الوظائف مقارنة بغيرها على جداول الأجور الأخرى. وهذا العبء المالي يتم على حساب الاحتياجات الأهم الأخرى. فبعد أن كان العمل الإضافي محصورا في الوظائف الاعتيادية حتى الدرجة التاسعة، فتح المسئولون الجدد في ديوان الخدمة الباب واسعا لجميع الجداول والدرجات ما حول موازنة العمل الإضافي إلى موازنة موازية لموازنة الأجور الثابتة، ما استدعى تدخل مجلس الوزراء وتوجيهه لديوان الخدمة لوضع ضوابط ومعايير جديدة للساعات الإضافية بشكل يكفل ضبط مصروفات العمل الإضافي. وبدلا من ذلك يشرع ديوان الخدمة في لائحته التنفيذية ما يناقض هذه التوجهات فيزيد من عدد الوظائف التنفيذية المتخمة أصلا في القطاع العام والتي تصل إلى ما يزيد على (850) موظفا وبنسبة تزيد على 2.5 في المئة من مجموع الوظائف، وهي نسبة عالية جدا بالمقاييس العالمية (1 في المئة في سنغافوره التي كثيرا ما اطلع مسئولو ديوان الخدمة على تجربتها).
إن قيام الديوان بتوسيع قاعدة الوظائف التنفيذية نراه واضحا في التفاوت الكبير بين مختلف الوزارات، فديوان الخدمة المدنية المتخم توجد به وظيفة تنفيذية واحدة لكل خمسة موظفين، في حين توجد وظيفة واحدة لكل 61 موظفا في الإذاعة والتلفزيون، وواحد لكل 57 موظفا في وزارة الأشغال والإسكان سابقا. فهل تخمة الوظائف التنفيذية في ديوان الخدمة هي إحدى مسببات هذا القرار الخاطئ؟ فأين نحن إذن من التوجهات الحكومية يا ديوان الخدمة؟
ثانيا: عدم جواز تشغيل الإناث ما بين الساعة الثامنة مساء وحتى الساعة السابعة صباحا كما جاء في الماده (181) من اللائحة التنفيذية.
لقد أوكلت الماده (44) من القانون لديوان الخدمة مسئولية تحديد أيام العمل في الأسبوع، وتحديد مواعيد خاصة لبعض الجهات الحكومية أو لوظائف معينة.
من الواضح في النص أن القانون قصد جهات حكومية ووظائف معينة ولم يتطرق إلى مسألة النوع أو الجنس (Gender). فتحديد أيام العمل ومواعيده تخص منتسبي الخدمة المدنية عموما بغض النظر عن جنسهم، فموضوع الجندر غير وارد في مسألة ساعات العمل. ولو قصد المشرع ذلك لنص عليه صراحة. فساعات العمل في رمضان مثلا، وتنظيم دورات العمل الأسبوعية تتعلق بالموظف والوظيفة بغض النظر عن شاغلها. وموضوع الرجل والمرأة الذي أقحمه ديوان الخدمة عنوة في لائحته يفتقر لنص يدعمه في القانون، من هنا أضافت اللائحة حكما جديدا ينظم دورات العمل على أساس الجنس وهذا ما لم يخول به قانونا. فلربما غلب مفهوم الرجل والمرأة على توجهات القائمين على ديوان الخدمة، ونأمل أن لا يكون هذا التوجه مدخلا لتوجهات أخرى تتعلق بوضع المرأة في العمل بصفة خاصة والمجتمع بصفة عامة.
إن ديوان الخدمة لم يخالف قانونه في لائحته الداخلية فحسب بل أخذ يسير في اتجاه مغاير لتوجيهات مجلس الوزراء، فأحيانا يتخبط في إصدار تعميم خانه التعبير في صوغه، ثم يتحفنا بتبريرات هزيلة، معللا ذلك بأنه لم يقصد فصل الموظف من الخدمة في تعميمه، إنما قصد إنزال العقوبة الصارمة في حقه، فكأن القانون مغيبا ويحتاج ديوان الخدمة لتذكير الغافلين في الجهات الحكومية باختصار إجراءات الجزاء التي نص عليها القانون والقفز إلى أقصاها صرامة وهي الفصل من الخدمة.
إن التخبط الذي يعيشه ديوان الخدمة مرده نقص في الخبرة والاحتراف من جانب، وتسييس الخدمة المدنية من جانب آخر. وما لم يتم إسعاف هذا الجهاز من هذا المرض العضال الذي ابتلي به فإن الإدارة العامة بمجملها ستنحدر، كما نشاهد بوادرها بالعين المجردة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 2239 - الأربعاء 22 أكتوبر 2008م الموافق 21 شوال 1429هـ