أخذا بما جاء في الخبر المنشور في «الوسط» فقد تحول خليج توبلي المنكوب بيئيا وغذائيا إلى مستنقع حينما «قام مسئولون عن تنفيذ جسر سترة بإغلاق آخر منفذ مائي يربط الخليج مع باقي المساحات المائية في الأيام القليلة الماضية» وهو أمر كان متوقعا أساسا، خصوصا وإن بات معلوما للقاصي والداني أن خليج توبلي قد يكون في موقع الاختيار ليشهد تطبيقات عملية لنظرية داروين «نظرية النشوء والارتقاء» فيجفف ويردم هذا المستنقع الآسن والمنفر ليصبح قسائم ومنتجعات أسطورية كما ذكرنا ذلك سلفا في مقال آخر! ولكن السؤال الأكثر إلحاحا في هذه اللحظة غير الفارقة لا ينبغي أن يكون «هل أصبح خليج توبلي مستنقعا؟!» بل يجب أن يكون كذلك «هل يكون خليج توبلي آخر المستنقعات البحرينية؟»
ففي بلادنا وهي الفقيرة مثل أجنحة القطا مستنقعات مقدسة وجرح في الهوية، مع الاعتذار لشاعرنا الراحل الكبير محمود درويش، وهنالك العديد من المستنقعات المقدسة في البحرين أكانت مستنقعات سياسية أم مستنقعات حقوقية أم مستنقعات شرعية، ومستنقعات صحافية أم مستنقعات ثقافية وفنية واجتماعية واقتصادية وغيرها، وبالتالي قد يكون مستنقع «خليج توبلي» هو أجمل هذه المستنقعات وأطهرها وأصغرها!
وكلمة «المستنقعات» تلك في حد ذاتها توحي بمشهد حيوي وواقع بيولوجي متعدد الأبعاد لعوامل الركود والجمود والتأسن العفن وعدم وجود منفذ أو رافد ومغذٍ مائي، وبالتالي انخفاض نسبة الأوكسجين في المياه إلى مستويات قد تستحيل فيها أحيانا الحياة لأي كائن، كما تشكل المستنقعات مرتعا خصبا لتعددية لا حصر لها من الطفيليات والجراثيم والميكروبات والفيروسات وتخرج منها وتعود إليها الأوبئة، وبالمثل قد تعيش فيها كائنات عديدة وبائسة كالضفادع والثعابين والتماسيح وغيرها من الزواحف وربما يرقات البلهارسيا، وفي أسوأ أحوالها تصبح مكبا وحضنا دافئا لأكوام القاذورات والفضلات «أعزكم الله» فتردم ليشيد عليها أو تستزرع، وبالتالي لا يحتاج أي فرد إلى عناء اجتهاد ليبرهن على أن هذا المستنقع على وجه التحديد أو جميع تلك المستنقعات هي نماذج لبيئات مرضية وغير صحية التي يستحيل معها العيش السوي وتزداد خطورتها بالتقادم الزمني، ولا يمكن أن يتنفس فيها الهواء الصافي والنقي أو أن ينبثق فيها أي تجدد واستمرار وتواصل من الخارج أو الداخل.
وإن كان يحسب «خليج توبلي» ضمن فصيلة وقائمة المستنقعات الأخيرة أو المستنقعات البيولوجية المرئية والملموسة إلى جانب محميات بيئية أخرى ردمت أو»استنقعت»، وغاب عنها اهتمام الدولة والنخبة والعوام، أو حظيت باهتمام مزدوج يتراوح بين الحرص اللفظي والإهمال المعنوي والعملي، وتهدد بموجب ذلك المخزون والرافد المستقبلي لأمننا الغذائي الذي لا يمكن أن يستورد ويتسجلب بمعاهدات الصداقة والتواد الدبلوماسي أو استنادا إلى ظروف تواصلية ومرحلية معينة حيث الأزمات تحل عادة كضيف ثقيل فجأة، فمن سيعوض الصيادين عن خسائر أرزاقهم الكبيرة تلك والتي لا تعوض أصلا بعد أن أصبحت مهنهم التي ارتبطت بنشوء البحرين فإذا بها مهن فولكلورية قديمة كمهنة «المسحر» وهم الآن يعملون ويكدون في المستنقع؟!.
وقبل «خليج توبلي» هنالك المستنقع الأعظم وهو مستنقع عقلية أمن الدولة الذي مازال الكثير من المسئولين والنخب موالاة ومعارضة لم يغادروه فالأولين مازالوا يتعاملون مع المناصب وكأنما هي مغانم وغلبة وولاية ذات «استحقاقات شرعية» تقتضي تمكين الفئة والطائفة وأبناء الحزب والفريق أو أبناء العم والعمة، وهناك يتم تسويد «الرواية الرسمية الواحدة والخالدة» و تبئير «ربنا يتمم بخير» رغما عن أنف تعددية الفضائيات الإلكترونية وانفتاح الآفاق العالمية على بعضها البعض وذوبان الحدود المكانية، فيظل التحفظ قاعدة والحرية استثناء، أما بالنسبة للمعارضة فلازالت تدمن السكرة التسعينية وتنتشي بها في ذات المستنقع الآسن فقد أغلقت جميع المنافذ والروافد!.
أما عن المستنقع السياسي الأشد عكارة وكدرا ففيه يغيب المعنى الرسولي الحقيقي للعمل السياسي الذي بدلا من أن ينصرف إلى التقريب بين الرؤى والتطلعات والتوجهات نحو المصلحة الوطنية العامة يصبح حقلا للتغريب والتخريب وانسدادا أشبه بمرض «كرون» المعوي، فيؤسر فيه المجتمع والمصلحة العامة ويكون العمل والحراك السياسي مبطلا ومعدما لكل طهر ونجاعة وبراءة وخلاص كما قال عن الأخير المفكر ماكس فيبر، كما يتغلب كمّا ونوعا في تلك المستنقعات الطفيلي والطارئ سياسيا على الكائن والحيوان السياسي المتطفل عليه وعلى دورته الغذائية والتفاعلية بين المجتمع والدولة!.
ولعل من أجاد تبيان فسيفسائنا السياسية المستنقعية تلك هو المفكر العربي عبدالإله بلقزيز في مقاله «تعددية أم بلقنة سياسية؟» المنشور في «الخليج» الإماراتية، فكتب موضحا الفرق الشاسع ما بين واقع التعددية وواقع الفسيفسائية السياسية والاجتماعية «الفسيفسائية بهذا المعنى أسوأ حالا من نظام الحزب الواحد وأدعى إلى المخافة منه لأنها تصطنع لها جمهورا من الجاهزين للتلاعب بكل شيء! وإذا كان من رذائل الحزب الواحد أنه يحوّل السياسة إلى عقيدة، فمن أرذل رذائل الفسيفسائية أنها تحوّل الانتهازية إلى عقيدة» ففي ظل واقع التعددية «تتوق الشعوب إلى الحرية والخلاص ممن يقيدون حقها في التعبير والتمثيل والتنظيم، وتصبح السياسة نعيما يستحق التضحية والافتداء بالنفس من أجله، فهي على الأقل الباب الذي منه تلج الشعوب إلى التعبير عن تطلعاتها، أو إلى تغيير شروط حياتها. أما في المجتمعات الثانية، فلا يكون من توق إلى شيء سوى التخلص من السياسة بوصفها قرينة على الكذب والفهلوة ونكث العهود والمتاجرة بقضايا الناس والاغتناء من وراء معاناتهم».
كما أن المستنقعات الحقوقية أشد بؤسا حيث تطغى الانحيازات السياسية الانتقائية الفاضحة والمغلفة وطنيا على حساب الحق والحقيقة البينة وتذكرنا حقيقة العمل الحقوقي بين مختلف الأقطاب السياسية بقصة الإنسان البدائي الذي واجه القمر بحجر بعدما ظن انه بيضة أو ذاك الذي وضع الفخاخ للطائرات بحسبها طيورا، فإما تجده الحقوقي ينتقي ما بين القضايا والطوائف المحركة لنهمه في ضرب خاصرة الدولة - الخصم، أو هو ينتقي ما بين مختلف أفراد الطوائف والأديان والإثنيات في جمعيته وإن استثنى فئة أو طائفة كبرى من الشعب في تلك التعددية الحقوقية المزيفة!
وأسوأ من مستنقع «خليج توبلي» ومستنقع العمل السياسي ومستنقع الإصلاح هو مستنقع الصحافة الذي أضحت فيه الصحافة هاجسا معويا لا فكريا فهي تمارس وتزاول كما لو أنها عند البعض لأجل لقمة العيش والارتزاق، وبدلا من أن تروج لأخلاقيات العمل المؤسسي والمهنة الاحترافية ولقيم المسئولية الاجتماعية والمصلحة الوطنية أخذت تروج لنماذج وقوالب طائفية وفئوية بعينها وإن كانت هذه القوالب بائسة ولا أخلاقية، وبالتالي من الطبيعي أن ينتهي الصحافي مهما تدرج في عمله الصحافي إلى أن يصبح حاله حين النوازل كحال ذاك الطفل المعاق ذهنيا وجسديا الذي تقذف الأخبار والروايات في فمه بالمعلقة الرسمية ويعلم أبجديات «الولاء» و»الطاعة» ليتهجاها صباحا أمام القراء!.
فهل يستقيم مستنقع «خليج توبلي» مع سائر المستنقعات البحرينية الكبرى؟!
وهل هو آخر تلك المستنقعات، والتي يعدها البعض فتحا وثروة قومية وبيئية لا تضاهى ومعلما سياحيا يستوجب الترويج العالمي، وما أسرع ما يتأقلم معها البحريني وما أسرع ما ينفر منها ويكرهها؟!.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2239 - الأربعاء 22 أكتوبر 2008م الموافق 21 شوال 1429هـ