بعد ثلاثة ايام من اندلاع الحرب العدوانية الخبيثة ضد العراق، بدأت الخطوط العريضة للمواجهة تتبلور: ادارة الرئيس بوش تعطي الاولوية في عملياتها العسكرية لمطاردة القيادة العراقية وتصفيتها جسديا، وهذه الاخيرة تعطي الاولوية لمعركة بغداد وحشد كل امكاناتها لها.واشنطن تراهن في استراتيجتها على ان الخلاص المبكر من رأس النظام العراقي من شأنه ان يؤدي إلى انهيار التماسك وبالتالي المقاومة. الامر الذي يوفر عليها الانجرار إلى حرب شوارع مكلفة وربما مديدة في العاصمة.
القيادة العراقية تراهن - في الانكفاء إلى بغداد والتمترس فيها - على ما تحاول القوات الغازية اجتنابه: قتال المدن، وخصوصا في مثل هذه المدينة الكبيرة التي تسكنها خمسة ملايين نسمة.
كلا الرهانين مازال امام الامتحان، ولو ان مجريات المجابهة حتى الآن كشفت عن بعض الاعطاب فيهما.
البنتاغون كان، عشية الحرب، قد حرص على ترويج أن الانقضاض العسكري هذه المرة على العراق لن يكون له مثيل حتى الآن. "قوته النارية غير مسبوقة"، كما قال الوزير دونالد رامسفيلد. زخات صواريخه المدمرة، في اليومين الاولين، لا نظير لكثافتها "حوالي 3 آلاف". قنابله المرعبة، لا تعرفها ترسانة عسكرية بعد، من "أم القنابل" إلى القنبلة الكهرومغناطيسية. حملته الجوية ستكون متواصلة لفترة، يرافقها على الارجح، زحف بري نحو بغداد.
لكن عندما اشتعلت الجبهة كان المشهد الميداني، على نحو مغاير: الحملة الجوية انتقائية ومنقطعة، الزحف المدرع متمهل، القصف لم يستهدف بعد البنية التحتية والمدنية والعسكرية، كما حصل العام .1991 وبذلك بدت اقرب إلى الحرب على جرعات اكثر مما هي انقضاض كاسح. وربما كان هذا التباين، بين التوعد المسبق وبين واقع الحال على الارض، جزءا من الحرب النفسية لتوفير عنصر المباغتة اللازمة لاستئصال القيادة، الذي سرعان ما بدا انه الخيار المفضل للحملة الاميركية. على الاقل في بدايتها. وتجلى ذلك في الغارة الاولى المفاجئة التي استهدفت مكان وجود عدد من اركان النظام العراقي، بحسب ما زعمت واشنطن. ولم يكن مصادفة ان تبدأ الحرب بتلك العملية. ففي ذلك اكثر من رسالة ومدلول. من جهة هو يؤشر إلى ان الخطة العسكرية الاميركية تقوم على محاولة حسم المعركة من فوق، وليس من تحت، كالمرة السابقة. ومن جهة ثانية يؤشر الى محاولة لتحييد القوات المسلحة العراقية وخلخلة علاقتها بالقيادة، واستطرادا تحريضها على التحرك ضد هذه الاخيرة. فأن تتعمد واشنطن افتتاح الحرب بالتصويب على القيادة لوحدها قبل ضرب المنشآت والتجمعات العسكرية ينطوي على رسالة بأن ادارة الرئيس بوش تضع نوعا من الفاصل بين القيادتين السياسية والعسكرية في العراق، وبأنها تدعو الثانية إلى التمرد على الاولى. واذا كانت مثل هذه الرسالة غير واضحة من الغارة الاولى وما تبعها، فإن وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد تعمد، مع رئيس هيئة الاركان ريتشارد مايرز، قراءتها بصراحة حتى يسمعها من يعنيه الامر، عندما ناشد علنا قيادات الجيش العراقي الامتناع عن تنفيذ الاوامر واعلان تمردها. ولتعزيز مثل هذه الدعوة وزرع البلبلة في صفوف القوات المسلحة العراقية، زعمت ادارة بوش انها نجحت في اقامة اتصالات مع عدد من العسكريين العراقيين! فهي تدرك ان اسقاط النظام في بغداد يتقرر إما بانقلاب وإما بدخول بغداد. ويعترف الاميركيون بأن معركة العاصمة لن تكون نزهة. وذلك خيار لا يتوخاه رئيس اميركي يبدأ قريبا تجديد ولايته وهو اصلا دخل في حرب بلا قرار دولي ولا شرعية. ولذلك هو يلعب بالأوراق كافة التي قد تعفيه من مثل هذه المعركة. وكان آخرها مطالبة الكثير من الدول بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام العراقي، وذلك في محاولة مكشوفة لنزع الشرعية عنه وبما يساعد على تآكله من الداخل. وليس من المستبعد ان تلجأ، في هذا الصدد، إلى تركيب حكومة في الاراضي التي تحتلها والعمل على فرض التعامل معها، وذلك بعدما رفضت هذه الدول طرد الدبلوماسيين العراقيين لديها. حتى اللحظة لم تنتج عن هذه التكتيكات مفاجآت تخدم حسابات واشنطن. الغارة الاولى وما تبعها من عمليات قصف استهدفت القيادات العراقية والعمل على عزلها عن القطاعات العسكرية والامنية، جاءت دون المطلوب. وذلك باعتراف الجهات الاميركية المعنية. ذكرت تقارير بريطانية ان ثلاثة من اركان النظام لقوا حتفهم، لكن لم يصدر عن واشنطن اي تأكيد بهذا الخصوص. كما يعترف الاميركيون بأنه حتى الآن "لم تظهر اية علامات تشقق" في جدار القوات المسلحة العراقية. "فلا هروب ولا حركات تمرد أو فرار ضباط" من الخدمة.
مع ذلك لا يخلو الخندق العراقي من الفجوات والاعطاب... فهو بالاضافة إلى كونه الطرف الاضعف وبما لا يقارن مع القدرات العسكرية للقوات الغازية، إلا انه يشكو من نواقص فادحة في الاساسيات. من ابرزها وأهمها شبه انعدام المقاومة لهذه القوات في الجنوب العراقي على وجه الخصوص. فالقوة العراقية الوازنة تم جمعها وتمركزها في العاصمة وضواحيها على ما يبدو، في حين اقتصرت حماية الاطراف على قوات رمزية. ومع انه قد يكون لذلك ما يبرره من الناحية العسكرية في ضوء النقص الكبير وافتقار القوات العراقية إلى العدة والعتاد المتطور بسبب الحصار المعروف، لكن عبور القوات الاميركية والبريطانية لمسافات كبيرة من الاراضي العراقية من دون حصول اشتباكات معها تؤدي إلى تكبيدها خسائر بالحد الادنى وتعيق تقدمها ما أمكن، فإنه لابد وأن يترك حالا من الاحباط والاضعاف للمعنويات العسكرية والوطنية. صحيح ان العاصمة هي القلب. لكن باقي اجزاء الوطن هي الجسم. والاول لا يعمل لوحده من دون الثاني. ثم ان حصر معركة مصير الوطن بموقع واحد، لا يخلو من المجازفة الخطيرة، لأنه لن يكون بعده من خطوط دفاع. واذا طالت معركة بغداد، فإن الاطراف تصبح سائبة وعرضة إما للنهش وإما لخلق امر واقع يتضارب مع السيادة ووحدة الاراضي العراقية، وذلك على رغم التشدق الاميركي بالحرص على سلامة هذه الاراضي. ولاسيما ان الارضية خصبة للتفتيش.
لكن الأمور سارت في هذا الاتجاه. وبغداد باتت ساحة الفصل، على مسرحها يتقرر مصير هذه الحرب
العدد 206 - الأحد 30 مارس 2003م الموافق 26 محرم 1424هـ