العدد 206 - الأحد 30 مارس 2003م الموافق 26 محرم 1424هـ

من يدفع ثمن الخطأ السياسي؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هناك أكثر من قراءة لقرار القيادة المركزية الأميركية بتوقيف الهجوم العسكري على بغداد. الهجوم البرى توقف واستمر القصف الجوي المكثف وإطلاق الصواريخ البعيدة المدى.

اختلفت القراءات على تفسير القرار وتبرير توقيته. العسكريون الميدانيون يقولون إن توقيف الهجوم مسألة لابد منها بعد أن تمددت القوات على طول خيط رفيع يبدأ من أم قصر وينتهي إلى جنوب كربلاء. هذا الخيط إذا واصل تمدده سينقطع ويتبعثر إلى مجموعة قطاعات موزعة على طول طريق يمكن أن يتعرض لهجمات تعطل إمكانات الامداد والاغاثة. الإستراتيجيون يقولون أن الهجوم الدائم خطأ عسكري ويمكن أن ينقلب في أية لحظة إلى دفاع ثابت في حال تقطعت أوصال الارتال الممتدة على خط رفيع يتوقع أن يبلغ طوله في حال تواصل إلى أكثر من 005 كلم... لذلك لابد من التوقف. الإستراتيجيون يقولون أن نظريات القتال الحديثة والتقليدية تعتمد على تكتيكات متشابهة تقوم على خطوات ثلاث: التمدد (التوسع)، التجمع (إعادة التموضع والتخندق) ثم الانتقال إلى التمدد مجددا. ويرى الإستراتيجيون أن طول جبهة القتال للوصول إلى الهدف المعلن (احتلال بغداد واسقاط النظام) يحتاج إلى مزيد من القوات والتعزيزات حتى لا تظهر الثغرات العسكرية وتتأكل قوة الهجوم في اللحظة التي تصل في القوات إلى تخوم العاصمة العراقية.

المتابعون السياسيون ينظرون إلى قرار توقيف الهجوم لفترة أيام ليس سببه الإعياء والمخاوف من تبعثر خط التمدد الطولي من الجنوب إلى الوسط بل هناك سلسلة تطورات ميدانية واجهت قوافل الامداد وأرتال القوات. وأساس تلك التطورات هو دخول الجنود في اشتباكات مع المجتمع الأهلي (المدني) وتحول المواجهات من معارك ضد قوات نظامية إلى اشتباكات مع مجموعات مقاومة ظهرت فجأة في سلسلة من المدن والبلدات والقصبات والقرى الممتدة على امتداد خط التمدد العسكري من أم قصر إلى جنوب كربلاء. هذا التحول يعتبر في نظر المراقبين السياسيين نقطة تحول في الإستراتيجية العامة التي حددتها القيادة العسكرية المركزية في البنتاغون. فالمواجهة مع قوات نظامية مسألة تمت دراستها في الأكاديميات العسكرية والجيوش الأميركية تملك من الأسلحة المتفوقة والتقنيات المتقدمة والتكتيكات المتنوعة ما يكفي من القدرات والاحتياطات لكسر أي جيش نظامي في العالم... إلا أنها لا تملك الخبرات نفسها ولم تتدرب فعلا عن اساليب قتال المدن والشوارع والأهالي. فهذه بحاجة إلى لحظة توقف وتأمل حتى يمكن التعاطي معها بطريقة لا تثير الشبهات ولا تسهم في أثارة المشاعر والحساسيات الدينية والوطنية التي في حال تأججت ستقلب المعادلة وتعدل دائرة الزاوية من هجوم إلى دفاع وربما إلى تراجع مستمر إلى خارج الأراضي العراقية.

في كل الاحوال هناك مشكلة. والقراءات المختلفة لمسالة توقيف الهجوم وتعارض آراء القوات الميدانية مع القيادة المركزية (الأكاديمية) مع التحليلات السياسية تصب في محصلتها العامة في سؤال عن حقيقة ما جرى والصراع الدائرة في قمة القيادة على إدارة دفة الحرب.

تقول المعلومات المتسربة إلى الصحافة الأميركية أن المشكلة بدأت قبل إعلان العدوان رسميا في 02 مارس/ آذار الجاري. وبدأ الخلاف بين القيادة المركزية (البنتاغون) الممثلة في وزير الدفاع دونالد رامستفيلد والقيادة الميدانية في مسرح العمليات الممثلة في الجنرال تومي فرانكس.

رامسفيلد طرح خطة إستراتيجية عامة تعتمد مبدأ "القوة الهائلة، أي تجميع كل ما تملك أميركا من عناصر تفوق جوي وصاروخي وتضرب بها كل المراكز العراقية في بغداد وغيرها لفترة ثلاثة أيام متواصلة تدمر وتحرق كل ما يمكن أن يساعد على صمود بغداد في المعركة البرية. بعد الضرب المتواصل (القوة الهائلة) يبدأ الهجوم البري أخذا في الاعتبار أن العراق كله أرض معركة والحرب لا تفرق بين عسكري ومدني حتى تصل القوات إلى بغداد وتحتلها وتنفيذ هدفها وهو قتل صدام حسين وأسرته والمجموعة المخلصة والمتعاونة معه.

فرانكس طرح خطة ميدانية مختلفة تعتمد مبدأ "السرعة الهائلة" أي ضرب مراكز القيادة وشلها لمدة ساعات ثم إحداث الصدمة العسكرية بهجوم بري غير متوقع يشق طريقه بسرعة وصولا إلى الهدف المحدد وهو بغداد (جغرافيا) وصدام (سياسيا).

انطلقت نظرية فرانكس من مبدأ مخالف وهو أن الولايات المتحدة بحاجة إلى العراق وهي تريد اعادة بناء نظامه السياسي بالتعاون مع "المعارضة" التي لا تستطيع أن تبرر وجودها في بغداد في حال احرقت جيوش أميركا العاصمة ودمرت كل مقومات الدولة من مدن وقرى وبنى تحتية.

وبرأي فرانكس إذا كان العراق هو محطة أولى في مشروع استراتيجي طويل وواسع يطاول دول المنطقة كلها فإن العقيدة العسكرية يجب أن تتكيف مع الهدف السياسي وهو تحويل العراق إلى دولة نموذج يمكن من خلالها الإطلال على المنطقة وأغراء شعوبها بالتمرد مدعومة بقوة احتياط أميركية موجودة في بغداد.

يبدو أن الرئيس الأميركي مال في الأيام الثلاثة الأولى إلى نظرية فرانكس بعد أن بدأت الحرب. وبعد ظهور عقبات وثغرات أخذ جورج بوش يعدل رأية محاولا للجمع بين "القوة الهائلة" و"السرعة الهائلة" بطرح فكرة جديدة وغامضة وهي "القوة الحاسمة" وبعد مرور عشرة أيام تبين أن الخطة كلها بحاجة إلى أعادة نظر بسبب ظهور عقبات في الشمال (تركيا وانقسام الأكراد) والجنوب (المقاومة المدنية) والوسط (توحد القوات النظامية مع العاشر المسلحة) الأمر الذي قضى بتوقيق الهجوم واستقدام المزيد من القوات والتجمع (التموضع) لاعادة التمدد ثانية.

أذن هناك قراءات كثيرة لمشكلة عسكرية... إلا أن الملهم فيها لم ينظر إلى جيدا وهو صمود العراق السياسي واستمرار المنطقة المحيطة على موقفها الرافض للعدوان الأميركي. فالمأزق ليس عسكريا بل هو في جوهره يبدأ من خطا سياسي. والخطأ السياسي لا تعالجه تكتيكات عسكرية. الكارثة وقعت وعلى واشنطن أن تدفع الثمن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 206 - الأحد 30 مارس 2003م الموافق 26 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً