العدد 206 - الأحد 30 مارس 2003م الموافق 26 محرم 1424هـ

الحب عن بعد لأمين معلوف مغناة أسطورية بين الشرق والغرب

بعد أن نشر أمين معلوف سبعا من الروايات التي هي بحق رائعة من روائع الأدب الروائي الذي يمتزج فيه التاريخي والاسطوري بالمعاصر، وباسلوب يؤشر على مرجعية إبداعية ذات طابع وجداني، يسعى فيه الى عالم يتناثر بين جنباته الحب والسلام، ويستحضر فيه قضايا المجتمعات المزمنة، يشكلها كمادة خصبة في الذاكرة فيكون وصفه دقيقا وشيقا وذا بعد انساني للصراعات التي طبعت العلاقة بين الشعوب والأمم، والتي ماتزال تشغل حيزها الزماني والمكاني.بعد تلك النتاجات، يداعب أمين معلوف إحساسنا ويراود مخيلتنا في مغناة "الحب عن بعد"، والتي هي عبارة عن أوبرا تم عرضها على مسرح الشاتيلة بفرنسا في 1002 لتقوم بعدها بدورة عالمية.

تدور حكاية المغناة حول مناخات الحب عن بعد، اسطورية درامية في القرن الثاني عشر، بين قلبين أحدهما في مقاطعة اكيتين الفرنسية، والآخر في مدينة طربلس، والتي يستوحيها من قصص العشق الشرقية التاريخية "جميل وبثينة، قيس وليلى" والغربية "روميو وجولييت"، وبهذا المسار يسحق البعد الزماني والمكاني بين هذين العالمين ويبوح لنا بأن الشرق والغرب لا يستطيعان الفكاك من بعضهما، لا ينفصلان وسيبقى الزمن جسرا بينهما.

وكعادته يضمن الحب مع التاريخ، يعالجه من زوايا لا يقبلها العقل أحيانا بحكم انعدام منطقيتها، لكنه ينصاع إلى قبولها بسبب تألق الملامح الانسانية الحسية الغنية بالآفاق المرهفة والنابضة بالحياة والشروق في لوحاتها المتعددة الصور، والتي تخترق القلوب بالحب الذي يتمثله بين العاشقين، هذا الاحساس الذي لا يقوى الانسان على التحكم فيه حتى عن بعد، فالبطل "جوفري" أمير بلاد بلاي، سئم حياة الترف وبات يتوق إلى حب مختلف وخلانه القدامى يلومونه على تغيير سلوكه ويهزأون منه ويؤكدون له أن المرأة التي يحلم بها لا وجود لها. وجوفري القابع في مخيلة معلوف يتغنى بالسعادة، وما كان سعيدا قط ويناجي المرأة التي يرغب باحتضانها وهي بعيدة نائية ولن تطوقها ذراعاه ما حيا، وهكذا يتواصل خياله لمداه فيمن عشق وحب فيقول عنها:

إنها جميلة، متواضعة فاضلة، رقيقة،

شجاعة، خجولة، جلودة، ضعيفة،

أميرة بقلب فلاحة، وفلاحة بقلب أميرة،

وبصوتها الشجي ستنشد أغنياتي...

لا نكتفي بقراءة أبيات المغناة كما تعودنا، فنحن بحاجة الى النظر في الأبعاد الابداعية، فالحضور قوي للمتع الحسية بين بواطن الكلمات الطوباوية الحالمة المجردة والتي لا يجمعها غير الفواصل والمرأة الحبيبة المنشودة، التي تشعل التوهج، والخيال الجامح المنزلق... فهل يتحقق الحلم أم يبقى سرابا؟

يظهر سائح من وراء البحر من رحلة الشرق ويؤكد لجوفري أن تلك المرأة التي يحلم بها موجودة وهي كونتيسة طرابلس التي التقاها قرب القلعة في طريقها إلى الكنيسة، فتخيم على جوفري الوحدة والكآبة ويتابع مناجاته للحبيبة التي يتخيلها ولم يرها بعد:

ماذا فعلت بي أيها الحاج؟

جعلتني راغبا بتذوق ذلك الينبوع البعيد

ولن يتسنى لي ما حييت

أن أروي ظمأي من مائه

بيد أن الكونتيسة "كليمانس" تحاور الحاج حينما رسا مركبه القادم من بلاد بلاي ومرسيليا:

هل تستحق بلادك

أن تهجرها؟

هل جوعتك؟

هل أهانتك؟

هل طردتك؟

ويبدو أنها حال اسقاط لم يستطع معلوف غير الوقوع في اسرها بسبب الغربة التي عانى منها إثر الحرب الأهلية اللبنانية العام ،5791 والتي هجرته كما هجرت الكثيرين من أوطانهم هربا من نيران الحرب، أو الظلم والاستبداد، أو بحثا عن فرص الرزق التي تبخل بها الأوطان، إذن هو شقاء الشرق الذي يهجر أناسه عن الوطن. فيرد الحاج:

لا شيء من كل ذلك أيتها الكونتيسة

فقد فارقت فيها أعز الناس

وكان علي أن أرحل فيما وراء البحار

وأرى بأم العين

ما يحتضنه الشرق من غرائب

القسطنطينية، بابل ، وأنطاكية

بحار الرمل

أنهار الجمر

الشجر الذي يذرف دموعا من بخور

الأسود في جبال الأناضول

وقصور الجبابرة

من أجل سحر الشرق يهاجر الينا القادمون والمستشرقون والمستعمرون والصليبيون والغزاة... لكن كليمانس تتوق كعادة النساء الشرقيات إلى الرحيل من الشرق، الانعتاق من القيود والسلاسل، وتناجي هي الاخرى عالمها:

كل مركب يرسو يذكرني بمنفاي

كل مركب يبتعد يشعرني بأني هجرت

وتستمر أحلامها لما وراء البحار، وهي تستمع الى الحاج يسرد لها حكاية الحبيب المتخيل الأمير والشاعر الجوال في الغرب، الذي يتغنى بها ويدعوها "حبيبته البعيدة"، ويقول عنها في اغانيه:

إنها النجمة النائية، وإنه متيم بها بدون رجاء

للوهلة الأولى تشعر بالاهانة، ثم ما تلبث أن تتراجع لتتساءل ان كانت جديرة بهذا العشق.

لكنها تبقى حائرة بسؤالها القلق: لو كان يعرفني ذلك الشاعر الجوال، هل كان ليتغنى بي بذلك الوجد؟ انها أزمة الانسان كيف يرى نفسه وكيف يراه الآخرون؟ هل يجلد الذات... أم يصورها ملاكا؟

تميزت أداة الكلمة والسردية عند معلوف بالبساطة والانسيابية، فحواسنا تتمدد وتتلمس صفاء ما يعتقد البعض فيه "الحب العذري" الصادق الذي يجسد حال من حالات العشق والوله وربما الجنون، إنه يعلمنا أن المشاعر والأحاسيس لا تقهر، حتى لو بإرادة أصحابها، فهي تبقى خارج نطاق الاختيار، تبث الحياة في الوجدان. فالبطلة تشعر بجوع وظمأ للحب البعيد، هي في حال توق، ومعاناة صاخبة مدوية تخترق نبضات جسدها، ثمة رغبة محمومة من التحدي، تتمثل في مشهد النساء الطرابلسيات وهن ينشدن أمام كليمانس:

أفلا تتألمين أيتها الكونتيسة؟

الا تتألمين لبعدك عن الحبيب؟

لا تلمحين في نظرته إن كان مازال راغبا بك؟

أفلا تتألمين لأنك حتى لا تعلمين

ماذا تشبه نظرته؟

أفلا تتألمين لأنك لا تغمضين عينيك

فتشعرين بذراعيه يطوقانك ويجذبانك إلى صدره؟

افلا تتألمين لأنك لا تشعري بأنفاسه على بشرتك.

وتتشكل نهاية الدراما عندما يتكسر التوق عند لحظة الفقد المليئة بالوجع، ولا يمكن لمعلوف وقتها الا الكتابة بقلم الحب والتاريخ والخيال المتمرد، فيدعي على لسان جوفري أنه راحل لمحاربة الكفرة في "الحملة الصليبية"، وفي حقيقة الامر هو قادم لملاقاة الحبيبة كليمانس، فيلاقي الموت وهو في الطريق اليها، ويتهالك جسده ويضعف عندما تعانقه، لكنه لا يغفو، ينتابها الغضب والتمرد بدلا من الحزن، وتركع وتصلي بصمت ثم ترتفع صلواتها نحو الجثة الهامدة... ويكتب عنها معلوف: أكانت تصلي للرب الذي تمردت عليه أم للحبيب... إنها تتفوه غاضبة:

إن كنت العشق

فلن أعبد سواك، يا إلهي

إن كنت الرحمة

فلن أعبد سواك،

إن كنت المغفرة

فلن أعبد سواك، يا الهي

إن كنت الشغف

فلن أعبد سواك،

تتعالى صلاتي اليك

أنت الذي أصبحت بعيدا عني نائيا

إليك أنت البعيد... البعيد

اغفر لي أني شككت بحبك

اغفر لي أني شككت بك!

أنت الذي ضحيت بحياتك من أجلي

اغفر لي أني شككت بحبك لي،

اغفر لي بعدي عنك

وقد أصبحت الآن بعيدا

هل تسمع صلاتي؟

أصبحت الانسان بعيدا

أصبحت الآن حبي البعيد

إلهي، إلهي أنت الحب،

أنت حبي البعيد





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً