العدد 206 - الأحد 30 مارس 2003م الموافق 26 محرم 1424هـ

لا يمكن إقرار الحرب بمقولات العقل الفلسفي

الحرب مكروهة، والحرب استثناء القاعدة، لأن في الإنسان ركونا إلى السلام، وميلا وحاجة، ورغبة عميقة، وتواصلا متينا مع الكون ومحتوياته من الخلق، وتفاعل يقيم الحضارة، على قاعدة ضرورة الاجتماع الإنساني، ذلك هو السلام نقيض الحرب، الجانب المضيء الذي يعمر بالوجود، فيها الحرب مسار عنيف يلامس العدم، أو يستدعيه إلى ساحة الوجود، كما يستدعى الشر إلى هذه الساحة، وهو ليس منها أصلا، ولا يحمل من الوجود، إلا ذلك الوجه الخاص من الوجود المشوب بالعدمية المطلقة.وعليه كان الخير هو الوجود، فيما كان الشر هو العدم. الوجود هو القاعدة الأصيلة، والحرب استثناء قاعدة الوجود، ونفيه الذي لا دور له إلا إثبات الوجود على نحو مطلق. والذي يذهب إلى الحرب، يترك الوجود مصابا بالقلق والخوف والنسيان، وليس للحرب من ذاكرة، ولا من ميول ولا شعور ولا قوة جذب فهي مكروهة، تنفر منها الأشياء لأنها مرتبطة بالوجود، ونافرة من العدم، ومصيرها إليه، سواء حققت أهدافها، أو أخفقت، فهي مرعى مجدب ليس فيه من ضروريات المعاش ولا ضروريات الاجتماع الإنساني على رغم تحقيق صورة للحرب في التاريخ في صور عدة.

السؤال الذي يحير ذاكرة الفكر، لماذا يذهب الإنسان إلى الحرب، ولا يفر منها، على رغم كل الحوافز النفسية العميقة، التي تجعل من النفس الإنسانية مبدأ للحياة والحركة، منافية للحرب باعتبارها مبدأ للموت والفناء.

ما واجهت حدث الحرب إلا بشعور مقيت، يلبس ثوب الشفاء، ويخلع ثوب السعادة، وما كان السؤال الفلسفي بقادر على تبرير جواب الحرب. لأن الفلسفة التي تشاء أن تقدم أجوبة مبررة من العقل ومقبولة لديه، لا تستطيع أن تقدم الحرب باعتبارها فعلا مبررا من العقل ومقبولا لديه، وحتى الفلاسفة الذين نظروا إلى الحرب باعتبارها فعلا إنسانيا ناظروا بينها وبين الشر، باعتبار الشر نفسه فعلا إنسانيا. وإذا كان فعل الشر ومصدره، موضع جدال في ساحة الفلسفة يميل إلى اعتباره وجودا على نوع خاص من الوجود فإن الحرب هي كذلك هذا النوع المشوب بانتفاء الجواب الفلسفي، لأنه لا يمكن إقرار الحرب بمقولات العقل، مهما قلبت هذه المقولات على تعدد الطرائق والمناهج العقلية فقد حسمت الفلسفة أمرها بإبقاء الحرب خارج دائرة السؤال، وخارج دائرة النقد، وخارج دائرة الشك والقلق والدهشة، وكل الأصول الأخرى القائمة وراء التجربة الإنسانية.

عاش الإنسان تجربة الحرب في لحظة كمون الفكر، باعتباره خاصية إنسانية، وانطلاق الغرائز باعتبارها خاصية حيوانية، وحتى في عالم الحيوان، يبدو فعل الغلبة، وصراع البقاء، استثناء في عالم الطبيعة، لأن فعل صراع البقاء، يتمركز في دائرة الحفاظ على الحياة وعلى الروح، وليس إزهاق الأرواح وتدميرها.

حسنا فعل المعلم الثاني أبونصر الفارابي حين جعل مدينة الغلبة من المدن الجاهلية المضادة للمدينة الفاضلة، وجعل نفوس أهلها في عالم العدم، وكان القدماء قد جعلوا من قوى النفس السبعية، قوة سلبية، يلزم على النفس العاقلة سياستها، حتى لا تنقلب عربة النفس في هاوية سحيقة، وجعلوا من هذه القوة حصانا جامحا، بلا أجنحة تكمن النفس من الطيران والعودة إلى عالمها السماوي، فهي لا تستطيع أن تسترد أجنحتها ولا تسترد دورة كمالها لأنها في جموحها الأرضي تفقد قدرتها على البقاء، باعتباره مبدأ للحياة والحركة، وتدخل في الفساد والعدم.

وإذا كان لكل فعل خلقه، ولكل فعل آدابه العامة، فإنه ليس للحرب خلق ولا أدب. والذي نعرفه من أخلاق الحرب وآدابها يندرج في قائمة نفي الحرب وليس إثباتها. فإن المعروف في نطاق أخلاق الحروب وآدابها، هو مجموع من النصوص والقيم التي تسعى بقوة إلى إفراغ الحرب من فعلها باعتبارها عملا ضارا بالإنسان، ومنافيا للقواعد الأخلاقية العامة التي ابتنيت عليها الفطرة الإنسانية. إن ما ندعوه أخلاق الحرب وآدابها هو مجموع القواعد، التي تحصر عمل الحرب في ساحات ضيقة، تسلبها قدرتها على الانفلات، وقطع الحبال مع قيم الوجود. إن نصوص هذه الأخلاق وقواعدها تضيق من حرية الحرب، وتعيدها إلى حرية الوجود، إنها إيقاف لعجلة الحرب عن الدوران العشاوي الذي لا تقره أخلاق، ولا تقول به آداب، وإذا عرفنا نصوصا معينة متعلقة بأخلاق الحرب فإنه من الصعب الحديث عن آداب الحرب، لأن الآداب بالمعنى الفلسفي لا تكون إلا في نطاق الخير. وتوجد آداب للخير، ولا توجد آداب للشر، وعليه لا توجد للحرب آداب على الإطلاق.

لم يخل تاريخ الفلسفة من قول في مشروعية الحرب والنظر إليها من جوانب متعددة متصلة بالنفس الإنسانية من ناحية وبالاجتماع الإنساني من ناحية أخرى، ويعني ذلك النظر إليها باعتبارها من صناعة الإنسان، فردا، وجماعة، لكن هذا النظر لم يجعل منها قاعدة إنسانية أصيلة، بقدر ما جعلها استثناء لهذه القاعدة، والحديث الفلسفي عن مشروعية الحرب، قيدها بحالة الدفاع المشروع عن النفس، أي جعل منها حربا على الحرب التي تسلب النفس مبدأها في الحياة والحركة وأرفقها بمجموعة من المبادئ الخلقية التي تحد من إمكان انزياحها إلى خارج هذه الدائرة المشروعة، وإلا انقلبت من الاستثناء إلى القاعدة وتحولت إلى تهديد لحياة النفس بدلا من أن تكون دفاعا عنها. وعليه تكون مشروعية الحرب مقيدة بقيد يجعلها منافية لفكرة الحرب الأصيلة التي لا يمكن لها أن تكون إلا مساوقة للشر وللعدم.

إن "مشروعية الحرب" باعتبارها استثناء للقاعدة تتميز في معناها الخاص - وجود على نحو معين من الوجود - عن تلك المقولات الشهيرة التي تميز بين الحرب العادلة والحرب الظالمة. إن اقتران الحرب بقيمة العدالة عملية صعبة القبول لدى العقل الفلسفي، فيما قبولها على قاعدة الاستثناء هو مناط القول بمشروعيتها. إنها مشروع استثنائي، لا تأخذ قيمتها من ذاتها بل من خارجها، وهذه القيمة ترتبط في القول الفلسفي المعاصر، بالأهداف التي من أجلها كانت الحرب. أي أن قيمة الحرب من قيمة أهدافها. الغرابة في هذه المقولة تقوم على مفارقة منطقية مفادها. أن أهداف الحرب المشروعة، عادة ما تكون منافية لأصل فعل الحرب نفسه. إنها مفارقة بين الفعل ونتائج الفعل، تلك هي المشكلة التي لا يمكن الخروج منها إلا إذا استطاع الإنسان أن يبلغ أهداف الحرب، من دون فعلها وهذا ما لا يطيقه دعاة الحرب لأنه نفي أصيل لحقيقتها القاسية.

الحرب استثناء. تلك هي القاعدة..





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً