العدد 206 - الأحد 30 مارس 2003م الموافق 26 محرم 1424هـ

في الحرب الضرورية ضد القبائل المتوحشة

من تزفيتان تودروف صاحب الكتاب المهم الموسوم بـ "فتح أميركا: مسألة الآخر" كذلك "نحن والآخرون، 8991" إلى نعوم تشومسكي في كتبه المتلاحقة التي تحمل هما واحدا، يتمثل في سعيه إلى فضح ما يسميها بـ "نزعة الناتو الإنسانية العسكرية الجديدة" وأشير إلى كتابه "إعاقة الديمقراطية: الولايات المتحدة والديمقراطية" وكتابه المهم "سنة "105": الغزو مستمر".أقول من تودروف إلى تشومسكي يجد القارئ لهما نفسه مدفوعا إلى البحث عن مجموع القواسم المشتركة بين شخصيتين ثقافيتين يفصل بينهما المحيط الأطلسي، إذ يعيش تودروف في باريس بينما يعيش تشومسكي في الولايات المتحدة. كذلك يجد القارئ لنصيهما أنه مدفوع إلى إثارة مزيد من الأسئلة وهذه هي فضيلة القراءة ومتعتها، وخصوصا أن النصوص المذكورة هي نصوص لذة ومتعة بحق إن جاز لنا استعارة ما يقوله رولان بارت الذي يقنع ويفعم ويمنح الغبطة وعن نص المتعة الذي يهز الثوابت التاريخية والثقافية والسيكولوجية لدى القارئ. وفي مقدمة هذه الأسئلة:

ما سر هذا الانتقال المفاجئ إلى حد كبير عند بعض الأكاديميين الغربيين من نقد الأدب إلى نقد السلطة والحضارة؟ بصورة أدق، من نقد الأدب إلى الانثربولوجيا والتاريخ وقضايا السلطة والديمقراطية؟ وعلى سبيل المثال فقد انتقل تودروف من "نقد النقد"، كتابه الشهير في مجال الأدب، إلى الانثربولوجيا والتاريخ الحضاري للغرب، وقد برر انتقاله هذا بقوله إن هناك ميلا يحركه للحكم على أخلاقية الحضارة الغربية. وفي المقابل نجد تشومسكي انتقل من "اللسانيات" إلى البحث عن الوجه الآخر، البشع والدامي للحضارة الغربية المعاصرة. والسؤال: هل يكمن سر ذلك في كونهما - أي تودروف وتشومسكي - من أبطال "العبور الثقافي" كما ينعت تودروف نفسه في كتابه "المثقف المغترب"؟ أو من "مثقفي ما بين الحضارات" كما ينعتهم إدوارد سعيد الذي انتقل بدوره من التخصص الأكاديمي الضيق على حد تعبيره، إلى ناقد للامبريالية كما يشهد على ذلك كتابه "الثقافة والامبريالية" وكذلك كتابه "صور المثقف" الذي يؤكد فيه أن وظيفة المثقف هي "قول الحق في وجه السلطة".

والأهم من هذا كله: هل يشي هذا التحول والانتقال بولادة المثقف في الغرب إذ ينعي الكثيرون غيابه؟

أما على صعيد القواسم المشتركة بين تودروف الذي يشارك ادوارد سعيد حالة الوجود والتوحد كما يعلن في خاتمة كتابه "فتح أميركا" وبين تشومسكي، فإن القارئ لهما يجد نفسه مدفوعا أيضا إلى صوغ هذه القواسم على شكل أسئلة:

- لماذا العودة المستمرة إلى القرن السادس عشر الذي شهد انزياحا اوروبيا في جميع أرجاء المعمورة؟ والجواب الذي يقدمه تودروف أن هذا القرن شهد اقتراف أوسع إبادة في تاريخ الجنس البشري.

- لماذا فتح أميركا؟ ألأن هذا الحدث المهم والمأسوي هو الذي دشن وأسس في واقع الأمر الهوية الحاضرة للثقافة الغربية؟

- لماذا البحث في درب الدموع؟ في قرون الخزي والعار - على حد تعبير تشومسكي - والتي تجعل وجوه من يحبون بلادهم تحمر عارا - على حد تعبيره ايضا؟ هل يكمن الهدف في البحث عن ذلك الإرث الثقافي النبيل لجنود كولومبس - تشومسكي يتهكم هنا - في تعرية حضارة بأكملها؟

- لماذا انتهت كل محاولات أوروبا في استيعاب الآخر إلى الفشل - بصورة أدق - إلى إزالة الآخر وافنائه؟

- لماذا تستمر النماذج الأساسية التي أرسيت منذ الأيام المبكرة للغزو - غزو أميركا - إلى زمننا الحاضر؟ وفي رأيي أن هذا هو السؤال المهم الذي يختصر جميع الأسئلة والذي يدشن لصفحة جديدة في إطار "البحث عن الحقيقة" كما يسميها تودروف وكما يتصدى لإعلانها ادوارد سعيد.

من وجهة نظر تشومسكي ان إزالة الآخر هو نهج الحضارة الغربية وطاعونها، هذا ما ختم به كتابه "إعاقة الديمقراطية" وهذا النهج/ الغزو مستمر من وجهة نظره المدعومة بمزيد من الوقائع التي يستقيها تشومسكي من الوجه الآخر المظلم والمسكوت عنه للحضارة الغربية. ففي كتابه "الغزو مستمر" يؤكد تشومسكي ذلك، فمن وجهة نظره أن العام 2991 من قرننا الماضي يطرح تحديا أخلاقيا وثقافيا خطيرا على القطاعات صاحبة الامتياز في المجتمعات المسيطرة على العالم، فبحلول الحادي عشر من اكتوبر/ تشرين الأول 2991 ينتهي العام "005" من عمر النظام العالمي القديم والذي يدعى بالحقبة الكولومبية - نسبة إلى كريستوف كولومبس - أو حقبة فاسكو دي غاما، تبعا لأي من المغامرين النهابين الذين بدأوها.

وإذا ما أردنا - والقول لتشومسكي - استعارة عنوان الكتاب التذكاري الذي يقارن طرائف النازية وأيديولوجيتها بمثيلاتها عند الغزاة الأوروبيين الذين أخضعوا العالم لسيطرتهم ونهبهم. ولذلك فقد آثر تشومسكي أن يجعل عنوان كتابه الرئيسي هو "سنة 105" والعنوان الفرعي هو "الغزو مستمر" وكأننا أمام فاتحة جديدة لغزو جديد ونهج تاريخي جديد هو طاعون حضاري كما يرى تشومسكي من شأنه أن يهدد العالم بأسره والكون برمته والمثال على ذلك الحرب العدوانية التي تشن على العراق الآن.

يهدي تودروف كتابه "فتح اميركا" إلى "امرأة من المايا التهمتها الكلاب"، ويختم كتابه بالقول "لقد ماتت امرأة ملتهمة من الكلاب". وحكايتها، التي لا تتجاوز عدة أسطر، تكثيف لأحد الأشكال المتطرفة للعلاقة مع الآخر. وتودروف لا يمل من سرد الحكايات/ الوثائق يحدوه هدف أن يجعل من التاريخ، تاريخ فتح أميركا، أمثولة، بمعنى أنها تمثل صورة أمينة لعلاقة الغرب بالآخر، وهو بهذا إنما يهدف إلى أن يسمح ذلك "بتأمل أنفسنا، واكتشاف التشابهات إلى جانب الاختلافات، فعسى أن تتم معرفة الذات عبر معرفة الآخر".

تشومسكي هو الآخر لا يمل من سرد الحكايات/ الوثائق، إنه يسوق لنا الآلاف من هذه الأقوال/ الوثائق، فهو يدشن كتابه "إعاقة الديمقراطية" بقول لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل يؤكد فيه أن الأمم الشبعى يجب أن تحكم العالم. ثم يسوق لنا في "الغزو مستمر" نصيحة أخرى لتشرشل يقول فيها "إن من الصحيح تماما استخدام الغارات السامة ضد القبائل غير المتمدنة الوحشية". ويعلق تشومسكي متهكما بقوله: "ان هذه الوحشية ضرورية لانجاز مهمة قطع الاشجار والهنود".

من وجهة نظر تشومسكي أن الأوروبيين ظلوا يحاربون بهدف القتل والنهب، وأن "العمل العظيم في الاخضاع والفتح" لم يتغير على مر السنين، وما القتل والمذابح الجماعية في ظل الامبريالية إلا الوجه الآخر لتلك الإبادات الجماعية التي عرفتها الحقبة الكولونيالية.

كان تودروف يقول: إن من يجهل التاريخ يجازف بتكراره، ولكن لسان حال تشومسكي يقول: إن من يعرف التاريخ يجازف بتكراره، فالطريقة التي تؤسس "لحكم العرق السيد في العالم" التي دشنها أوائل النهابين الفاتحين مازالت انموذجا يحتذي به أسياد العالم الجديد وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني الذي لا يرى حلا إلا بإبادة الفلسطينيين وبذلك يقتفي سلوك القبيلة الشقراء في طريقتها التي تؤسس لحكم العرق السيد في العالم





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً