بدا واضحا أن ما أنفقته الولايات المتحدة من أموال ضخمة في سبيل صناعة رأي عام عالمي «مؤمرك» لم يفلح كثيرا في تخدير الشعوب، وإلهائها بالشكل الكافي لتمرير أميركا سياساتها الخاصة في المناطق التي تستفيد منها.
إذ ان الرأي العام في أي منطقة، سرعان ما يعود إلى وعيه الخاص، وحساباته المعقدة والبسيطة في سبيل الانتصار إلى مبادئه وأحلامه وتاريخه ومعارفه، وربما يكون الوعي العام «بسيطا» وأوليا، ولكنه غالبا ما يتسم بالصدق والذهاب إلى الدفاع عن كيانه، ويستطيع تمييز الخيط الأبيض - بوضوح - من الأسود.
ففي العام 1990، وعندما غزا العراق الكويت، لم يجد أكثر الناس - هنا في البحرين - أي عذر شرعي ومقبول لهذا الغزو، عدا عن العلاقات الحميمية التي تربطهم بالكويت تاريخيا، ولم تكن المبررات الرسمية للعراق، والتي كانت تتناقض يوما بعد يوم - حتى استقرت على قصة الأصل والفرع - كافية لجعل الناس يصدقون هذه الأكاذيب التي تبرر قتل الناس في الشوارع وأعمال السرقات والنهب والقتل وغيرها التي قام بها أفراد النظام آنذاك. ولذلك، كانت المشاعر تؤيد «تحرير» الكويت، وربما بأي ثمن، ولو بالتحالف مع الشيطان، كما يردد بعض الساسة العرب، في سبيل استعادة الحق. ورأى الكثير من الناس أيضا، أن الأمر لو ترك للجامعة العربية - والتي يعلم الجميع موتها سريريا منذ أمد بعيد لما تغير في الأمر شيء، ولن تتحرك أية قوة من أجل إرجاع الكويت إلى أهلها.
خرجت مسيرة أنيقة في تلك الفترة العصيبة لتعبر عن الغضب الشعبي، قام مجهولون بإطلاق النار على السفارة العراقية في الليالي الأولى التي أعقبت الغزو، تبرع الناس بأنصاف بيوتهم، وبما يملكون من مال أو زاد أو مساعدات لحماية شعب عزيز كريم من ذل التشرد، وبؤس العيش.
ولم تكن في ذلك الوقت إلا فئة قليلة جدا لا تقاس، من الذين كانوا يروجون هنا لأهمية وحدة المنطقة بالجبر بعد أن فشل الاختيار، بل تمادى البعض في توزيع قوائم كي توقعها الشخصيات الثقافية والسياسية تأييدا لاحتلال القوات العراقية الخليج بأكمله، لأن هذه القوائم ستنقل إلى «القيادة القطرية» وبالتالي سيتم استثناء الموقعين من أي نوع من العقاب، فأصيب المشروع ومروجوه بالخذلان.
رضي الناس في ذلك الوقت بدخول «خاطف» للقوات الأميركية من أجل إنجاز مهمة محددة، ستستفيد منها - ولاشك - لأنها لن تقوم بحشد جيوشها والمباشرة في الحرب من دون أن تقبض الثمن.
ومع ألم كبير يعتصر قلب أي عربي ومسلم لمشاهدة منظر ذلك العراقي الذي يقبل حذاء الجندي الأميركي حتى فقط يقبله أسيرا، أو لمنظر المجزرة للقوات العراقية وهي تحاول الفرار إلى البصرة، إلا أن الهدف الأسمى كان باهرا.
واليوم، يأتي الرئيس الأميركي من البلد ذاته، والحزب ذاته، والسلالة ذاتها، ويستخدم المعدات العسكرية ذاتها تقريبا، ويهجم أيضا من الجنوب إلى الشمال، للغرض نفسه تقريبا الذي لم ينجزه والده، إلا أن كل شيء تغير على الأرض، فأميركا لم تؤد - أبدا - دور المفاوض الحاذق، بأن تأخذ ما تريد وتترك بعض الشيء للطرف الآخر حتى لا يشعر بأنه تم استلابه بالكامل، فيتوحش، كالعذارء حين تغتصب.
إن إدخال هذه الأمة في سلسلة من المعاهدات المذلة، وبصورة بالغة في الهرولة، بل والجري - أحيانا - بالطاقة القصوى في اتجاه الكيان الصهيوني، والتسابق الأميركي العربي في تعرية جسد الأمة حتى تكف عن الخجل، وتمارس قيادتها في العلن ما مارسته في السر عقودا طويلة، والوقوف الصلف إلى جانب كل ما تفعله «إسرائيل»، كل ذلك جعل مراجل الغضب تغلي في الشارع العربي، بل وفي أكثر من منطقة في العالم، مارست في حقها أميركا الأسلوب نفسه في «تنشيف» الكرامة.
الجيوش الأميركية ستنتصر عسكريا، هذا الراجح عمليا، ولكن لن تحصل أميركا على الأمان الذي تنشده لشعبها، لأنها أسرفت في تربية كراهية العالم لها.
غسان الشهابي
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 204 - الجمعة 28 مارس 2003م الموافق 24 محرم 1424هـ