مشهد توزيع الإغاثة الذي عرضته بعض محطات التلفزة العربية والدولية في منطقة صفوان العراقية يشير إلى نوعية الرسالة السياسية التي تريد واشنطن توجيهها إلى الدول العربية وغيرها من دول الجوار المسلمة. المشهد مريع في طريقة إذلال الناس. شاحنات متوقفة والمساكين يتدافعون على أبوابها وعمال الإغاثة يرمون أكياس وصناديق «العون الغذائي» على رؤوس الجمهور الفقير المتجمع قرب الشاحنات. والجمهور يتدافع ضد بعضه بعضا لأخذ المعونة، فهذا يتضارب مع ذاك، والآخر يحاول مقاسمة بقايا صندوق تلاشت محتوياته في الهواء.
هذا المشهد المريع هو الجزء الأول من مسرحية طويلة أعدت منذ فترة طويلة ووضعت لمساتها الأخيرة في قمة بوش ـ بلير في كامب ديفيد. وعنوان المسرحة الأميركية، التي اعترضت بريطانيا على جزئيات منها، هو تحويل الأمم المتحدة من هيئة دولية تعتبر مرجعية شرعية لمصالح الدول، وإطارات عامة تدافع عن حقوق الدول الصغيرة والمستقلة حديثا إلى منظمة إغاثة دولية لا دور سياسيا لها، بل هي مجرد وعاء يستقبل المساعدات الإنسانية ويعيد توزيعها بإشراف الجيوش المنتصرة في حروب مفتعلة تقررها مصانع الأسلحة وشركات النفط ومؤسسات النقد والاحتكار.
المشهد المريع يرجح أن يتكرر في السنوات المقبلة إذا لم تظهر قوة دولية جديدة تعيد إلى العالم توازنه الذي انهار مع انهيار «الحرب الباردة الأولى». المشهد يتلخص بالآتي: قوة عسكرية تضرب فتدمر وتقتل وتبيد عشرات المدنيين في مدنهم وقراهم ومنازلهم. وهيئة إغاثة (الأمم المتحدة) تذهب إلى مكان الدمار لتوزيع المساعدات الإنسانية على من بقي على قيد الحياة.
المقصود بالإغاثة (النفط مقابل الغذاء في الحالة العراقية)، هو تحويل الشعوب إلى مجموعات متناثرة من جماهير جوعى وفقيرة تتراكض وتتدافع لاصطياد كيس أو صندوق غذاء يرمى من شاحنة فوق رؤوسهم. بينما تكون القوة الغالبة تقايض وتساوم بحقارة ونذالة اقتسام ثروة هذا الشعب وتوزيعها في اعتبارها غنائم حرب على شركات ومؤسسات أميركية لا تشبع، على رغم اكتناز صناديقها بالمال والثروات. فهذه المؤسسات لو وزعت نصف ما تملك من رساميل على إفريقيا لأنقذت القارة من معظم كوارثها (الجوع والجفاف والمرض والأمية).
إذن نحن أمام قوة غاشمة تنظر إلى العالم برؤيتين: الأولى عقلية الاحتكار والسيطرة والاستبداد الدولي. والثانية عقلية الاحتقار وإذلال الشعوب عن طريق قهرها وسرقة ثرواتها ورمي بقاياها على رؤوس جموعها الهائجة والجائعة.
هذا الكلام ليس فيه مبالغة. وما نراه في صفوان (مركز الإغاثة) هو بداية مشهد سيتكرر في أكثر من مكان مادامت زمرة الأشرار حاكمة في البيت الأبيض وترى العالم مجموعة أصفار لا قيمة لها في معادلة القوة.
وما حصل في جلسات مناقشة مجلس الأمن لبحث موضوع العدوان على العراق يؤكد ان سلوك الولايات المتحدة في إدارة ظهرها لصيحات العالم ودوله الكبرى ليس مجرد لحظة غضب من مؤسسة مانعت شهوات السيطرة الأميركية بل هي قفزة في مجهول العلاقات الدولية وبداية تأسيس لصيغة جديدة للمصالح التي تنظم القوى وتدير شئونها. فواشنطن رفضت حتى فكرة مناقشة العدوان ومندوبها انسحب من الجلسة قبل ان ينتهي المندوب العراقي من كلمته. وكل ما استعدت أميركا إلى قبوله هو مجرد تراجعات في مسألة الإغاثة الإنسانية والوعد بإعادة برنامج «النفط مقابل الغذاء» الذي توقف بعد بدء العدوان.
حتى تلك الدول (أمثال رئيس حكومة اسبانيا اثنار) التي أيدت واشنطن في حربها الخاصة استبعدت لأن مواقفها لم تكن محسومة مئة في المئة. فاسبانيا الرسمية مؤيدة واسبانيا الناس معارضة وهذا في حسابات أشرار الحزب الجمهوري ليس كافيا لإعطاء فرصة لانضمام اثنار إلى القمة الثنائية في كامب ديفيد.
حتى رئيس وزراء بريطانيا الذي يعاني من صعوبات داخلية أثرت على موقعه في حزبه العمالي الحاكم فشل في إقناع صديقه جورج بوش بإعلان «خريطة الطريق» الفلسطينية قبل نهاية النزاع في العراق. وفشل أيضا في إقناعه بإعطاء دور خاص للأمم المتحدة في العراق بعد نهاية مرحلة صدام حسين.
أشرار البيت الأبيض يعتبرون العراق غنيمة حرب، ولا يحق لأية قوة في العالم (لم تشارك في تدمير تلك الدولة) ان تشترك في نيل حصة... كذلك لا يحق للأمم المتحدة التي عطلت قرار الحرب أن تلعب دورها الدولي في إعادة تنظيم العراق في الفترة المقبلة.
العالم إذن أمام تحديات جديدة. وليست الدول العربية وحدها التي فشلت في إصدار قرار عن مجلس الأمن يدين العدوان ويطالب بوقف فوري للنار وعودة القوات المعتدية إلى الأمكنة التي كانت فيها قبل 20 مارس/آذار... العالم كله فشل وباتت المجموعة الدولية وعلى رأسها الدول الكبرى أمام تخثر اتفاقات موقعة ويعاد النظر فيها بطريقة اعتباطية تبدأ في العراق ولا يعرف أين تنتهي.
على الدول العربية أن تستعد. فالآتي أعظم. وما حصل ويحصل في العراق هو أول الغيث. والمشكلة الأساسية ليست في بعض الدول العربية، الذي يرى ولا يبصر ... بل في دول العالم الكبرى التي ترى وتبصر وتعرف ما هو المقصود من كل تلك الإشارات والتنبيهات، ولا تستطيع أن تفعل شيئا سوى الاحتجاج والاستنكار والتحذير من خطورة انقلاب التوازن الدولي وانفلات العلاقات وتدهورها إلى صيغة غير واضحة من «حرب باردة جديدة» لا تعرف معالمها من الآن، إلا انها ستكون أخطر على البشرية من تلك التي سادت العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 204 - الجمعة 28 مارس 2003م الموافق 24 محرم 1424هـ