العدد 202 - الأربعاء 26 مارس 2003م الموافق 22 محرم 1424هـ

خيارنا الحضاري تحويل الثروة إلى معرفة والمعرفة إلى ثروة

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

في قراءة أولية لحال العلماء في حقبة من العصر العباسي، وحركتهم ومواقعهم، نخرج بنتيجة تحتاج إلى تثبت وتثبيت من خلال الاستقراء التام أو التقريب من التمام... ويرتسم أمام ناظرنا ما يقترب من المفارقة شكلا ومضمونا. عندما نلاحظ أن العلماء الذين نبغوا فارتاحوا أو ارتاحوا فنبغوا! هم الذين استطاعوا أن يجدوا لهم مكانا قريبا من الحاكم... أما من لم يكن يحرز هذا الموقع فإنه كان يعاني الأمرين، وعلى سبيل المثال كان «أبوبكر القومسي» الفيلسوف، من الضر والفاقة على جانب عظيم وقد قال: «ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغ مني. إنْ قصدت دجلة لأغتسل نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد أملس» وأبوسلمان المنطقي السجستاني كان سيد علماء عصره وهو «بحاجة ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه ووجبة غذائه وعشائه». كما يقول تلميذه أبوحيان التوحيدي: «إنه كان ينسخ في اليوم عشر ورقات بعشرة دراهم ليعيش». وكان الفيلسوف «يحيى بن عدي» يكتب في اليوم والليلة مئة ورقة وأكثر، ينسخها حتى لو كانت تافهة، بالأجرة، وكان «المعافى بن زكريا النهرواني» ذا أنسة بسائر العلوم، شاهده تلميذه التوحيدي في جامع الرصافة ببغداد وقد نام مستدبرا الشمس في يوم شاتٍ وبه من أثر الفقر والبؤس أمر عظيم، مع غزارة علمه وأدبه وفضله المشهور بحسن التوجه بالسؤال إلى المبدعين في كل الحقول عما إذا كانوا يقدرون سلفا المردود المادي لإبداعهم؟ وتقديري أنهم لو كانوا يفعلون أو يقفون عنده لما أبدعوا، أو أبدع القليل منهم إبداعا قليلا... أما أبوحيان التوحيدي، فريد عصره علما وأدباء، أو علوما وآدابا، فقد سعى من اتصل بالوزير المهلبي الذي لم يحتمله طويلا ونفاه من بغداد، والتحق بالوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد، اللذين، ربما لم يرق لهما اعتداد الوحيدي بعلمه وأدبه، إلى سوء طبعه وجفائه، وهما عالمان أديبان، فازدرياه وأبعداه، فعاد إلى بغداد ليقع في براثن الشقاء ثانية لولا لقاؤه بعالم الرياضيات الكبير «أبي الوفاء المهندس» الذي وصله بالوزير ابن العارض، وزير صمصام الدولة البويهي.

وهنا، كتب أبوحيان كتابه المعروف (الإمتاع والمؤانسة) والذي ظهرت فيه سعة علمه ومعرفته بسائر علوم عصره، وقد وضعه وفاء للوزير الذي احتضنه وكرمه وأصفى إليه في لياليه، ثم عاد بعد ذلك إلى حاله من الضيق، ما جعله يعمد إلى كتبه التي أفنى عمره في تسويدها أو جمعها، فمزقها وأحرقها لقلة جدواها؟ ومات تاركا خلفه لغطا حول زمان ومكان وفاته وقبره... يقول أبوحيان عن حاله: «غدا شبابي هرما من الفقر، والقبر عندي خير من الفقر» وقد عجز عن الحصول على «طمرين للتستر لا للزينة».

وكان يأكل الكسرة اليابسة والبقيلة الذاوية ويلبس القميص المرقع ويتأدم بالخبز اليابس وينفق أربعين درهما في الشهر، وكان «لا يفوز بالبُلْغة إلا ببيع الدين وإخلاق المروءة وإراقة ماء الوجه وكد البدن وتجرع الأسى ومقاساة الحرفة ومض الحرمان والصبر على ألوان وألوان» كما قال عن ذاته بذاته.

لا تتسع حدقة العين ويضيق القلب في الصدر والصدر بالقلب إذا ما قسْنا هذه الحال وأكلافها الزهيدة المتعذرة أو شديدة الصعوبة في تحصيلها مشفوعة بالضروري من الكرامة، على كلفة متوسط المعيشة من جهة وعلى الأكلاف الفلكية للثروات ومصاريف أهل القدرة والثروة، وترتفع المفارقة إلى مستوى الفاجعة... فقد كان الرجل من عامة الناس، هو وزوجته، يكفيهما ثلاثمئة درهم في السنة (ثلاثون دينارا) وكانت الثروة التي تبلغ سبعمئة درهم تعتبر ثروة غير قليلة!

كان يمكن لنا أن نفهم أو نتفهم تلك الزيادة الكبيرة في الملكية وفي الإنفاق نظرا إلى التطور في الدخل (القومي) وما تقتضيه سعة الدولة وتعاظم شأنها ودورها ومسئولياتها ودخلها ومواردها ومصارفها، ونظرا إلى ما يغري بالاقتناء أو الترف، لو أن الفارق بين مرحلة التأسيس والمراحل المتأخرة عنها قليلا لم تكن فوارق نوعية هائلة، لا تجد لها تفسيرا إلا في الخلل الذي أصاب نظام القيم والأفكار ما أدى إلى فقدان المثال.

ألم يكن الأجدى، ولم يزل أجدى، التأسي برسول الله (ص) مع التوسعة المقبولة نظرا إلى المتغيرات في الظروف والمغايرة بين شخصه (ص) وشخوصنا، وما يترتب على هذه المغايرة من مسئوليات وسلوكيات مختلفة من دون أن تصل إلى التناقض؟ لكان الأمر أهون... ولما ترتبت على سلوك أهل المسئولية هذه الآثار السلبية التي نعاني منها، ستزداد معاناتنا أضعافا مضاعفة بعد اكتمال هذا المنعطف المادي الذي يحول كل تراكمات السلبية في الماضي إلى استحقاقات باهظة تستدعي استنهاض احتياطينا الذهبي في القيم والسلوك والفكر

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 202 - الأربعاء 26 مارس 2003م الموافق 22 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً