كل الانظار متجهة إلى بغداد والأمم المتحدة. عين على العاصمة العراقية وعين على نيويورك. الاولى خائفة من مصير مرعب تنتظره عاصمة بلاد الرافدين. والثانية متخوفة من اقدام التحالف الاميركي - البريطاني على تعطيل الإرادة الدولية بالقوة المسلحة وإعادة سلسلة التفاهمات إلى دائرة البحث والنقاش من جديد.
معركة بغداد نقطة حاسمة وهي الكلمة الفصل في الحرب العدوانية على العراق. ومعركة الأمم المتحدة نقطة حاسمة في الحرب الدبلوماسية التي كشفت عن وجود ثغرات سياسية في الهيئة الدولية بين نظرية القوة ونظرية الحق. فالدول المعارضة للحرب تريد وقفها، والدول المحاربة تحاول تشريع عدوانها وتحويله إلى أمر واقع لا يمكن التراجع عنه.
ما يحصل في العراق سابقة في تاريخ هيئة الأمم المتحدة، والولايات المتحدة تريد ان تكسب الحرب من دون ان تخسر هيمنتها الدولية واستخدام قوتها العسكرية لفرض شروطها على القانون الدولي.
المعركة اذن ليست بين اميركا والعراق، فهذه واحدة من جوانب القضية. المعركة الحقيقية هي تلك الدائرة ضمن النظام الدولي والخلخلة التي اصابته بسبب دفع الولايات المتحدة المعركة الدبلوماسية إلى خارج اطرها القانونية ونقلها من دائرة مجلس الأمن إلى ساحة القتال.
برأي واشنطن ان من يربح معركة القوة في ساحة الصراع يربح معركة الأمم المتحدة ويصبح عنده الحق في التصرف الكيفي وإدارة الصراع الدبلوماسي وفق الطريقة التي تناسب حاجاته ومصالحه.
وبرأي الدول المعارضة للحرب ان تلك المعركة الجارية في ساحة العراق لا صلة لها بتلك الدائرة في مجلس الأمن وأن نتائج الحرب (المعروفة سلفا وقبل وقوعها) لا تعطي شرعية قانونية للطرف المتمرد على القانون الدولي ولا يعني ان المرجعية المتفق عليها بين الأمم سيعاد النظر فيها لمصلحة الفريق الذي فاز في حرب الدمار الشامل.
الدول الكبرى المعارضة للحرب خائفة من المصير المجهول للأمم المتحدة، ومتخوفة من ان تتحول نتائج الحرب في العراق إلى سياسة جديدة تعتمدها واشنطن في حل مشكلاتها مع الدول المعارضة أو غير المتفقة مع توجهاتها الاستراتيجية في «الشرق الاوسط» أو في اي مكان آخر من العالم.
المخاوف الآن انتقلت إلى نقطة جديدة من الصراع واحتمال استقواء جناح الحرب (اشرار الحزب الجمهوري) بنجاح سياستهم العدوانية في العراق وتحويلها إلى استراتيجية ثابتة تعتمد مبدأ الحرب الدائمة ضد كل مخالف للطموحات الاميركية واطماع واشنطن في مال المنطقة وثرواتها.
النقاش الدولي لم يعد عن العراق، بل عن «مرحلة ما بعد صدام» واحتمال اشتباك المنطقة ببعضها في حروب اقليمية تبدأ صغيرة وقد تتحول إلى حروب كبيرة تدير دفتها الولايات المتحدة وتدفعها بالاتجاه الذي يخدم مصالحها من خلال زعزعة الاستقرار القائم منذ عقود في منطقة توجد فيها كميات هائلة من احتياطات النفط القابل للاشتعال السياسي.
المعركة خطيرة جدا وأوسع من ان نتصور. الآن هي محصورة في دائرة العراق إلا ان اشاراتها ودلالاتها أكبر بكثير من جغرافية بلاد الرافدين. وأي خطأ في التقدير يسهم في توسيع دائرة رقعتها ويدفعها إلى التطور باتجاهات ليست بالضرورة ان تكون مراقبة أو تحت السيطرة الدولية.
المعركة خطيرة جدا ليس في بغداد فقط، اذ يتوقع ان تقع فيها وبعد ايام قليلة «أم المعارك» وتسقط خلالها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، بل في دائرة الأمم المتحدة ايضا، اذ من المتوقع ان تحصل فيها معركة دبلوماسية جديدة تعيد انتاج التوازن الدولي الذي بدوره سيرسم حدود المصالح العالمية في اطار علاقات دولية ليست بالضرورة ان تكون منسجمة أو متكيفة قانونيا مع النتائج العسكرية التي ستسفر عنها معركة بغداد.
الكل الآن يستعد لمعركة الأمم المتحدة. روسيا حددت مواقفها بوضوح وأكدت رفضها الحرب ونتائجها معتبرة ان عقودها التجارية واتفاقات التنقيب عن النفط التي وقعت سابقا ستبقى سارية المفعول ولن تقبل التراجع عنها أو اعادة النظر فيها. وفي السياق نفسه ذهبت فرنسا، اذ اشارت مرارا إلى خصوصية علاقاتها مع بغداد وانها لن تتخلى عن ديونها وحقوقها الاقتصادية والتجارية والنفط.
وفي الاطار نفسه تحدثت المانيا عن مصالحها الخاصة وموقعها التاريخي المتميز، مشيرة إلى ان مهمة اعادة اعمار العراق مهمة دولية وليست اميركية وان الدول التي اسهمت في تدمير العراق يقع عليها واجب تمويل الاعمار. الصين ايضا ليست بعيدة عن هذه الاجواء فهي بدورها متخوفة من انفلات الضوابط الدولية لتوازن المصالح واندفاع اميركا نحو اجتياح المناطق المحايدة أو تلك التي تعتبر من الدول اللامنحازة في سياستها الدولية.
الكل حدد موقفه وبقي على الدول العربية ان تختار بين الخنوع وقبول الامر الواقع والانسياق وراء منطق القوي وسياسة القوة وبين التمرد على منطق القوة والتمسك بحقوقها التي تعتمد قوة المنطق وتحتاج إلى غطاء دولي متوازن أو على الاقل يحميها من لغة البطش واللطش والنصب والاحتيال التي يقودها الآن اشرار الحزب الجمهوري. هناك فرصة عربية لإعادة ربط المشروع العربي بنمو قوة دولية جديدة تضغط عالميا باتجاه الحد من الهياج الاميركي غير المسبوق والمدعوم بكتلة من الاشرار التي تنطلق من نصوص ايديولوجية قاطعة في النظرة إلى العالم وأممه.
الفرصة مهمة وأيضا خطرة وصعبة. والدول العربية في هيئتها العامة (الجامعة العربية) يمكن لها ان تلعب دور المرجح في لعبة التوازن الدولي الجديد. فالمعركة واضحة وهي ستكون أكثر وضوحا بعد انقشاع الغبار وظهور حجم الكارثة في بغداد. فتلك الكارثة لن تقتصر على العراق، بل ستمتد إلى الجوار، وعلى الدول العربية ان تستدرك الموقف وتقرأ خريطة الصراع الدولي بعد مرحلة «ما بعد صدام».
فتلك المعركة لا ترسم خطوطها الحرب على العراق. فالحرب هناك مجرد بداية... أما النهاية فهي ما يمكن ان تنتجه تلك المعركة الدبلوماسية القائمة الآن في الأمم المتحدة وظهور معالم جديدة لنظام دولي مختلف عن ذاك الذي عرفه العالم واختبره سابقا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 202 - الأربعاء 26 مارس 2003م الموافق 22 محرم 1424هـ