العدد 202 - الأربعاء 26 مارس 2003م الموافق 22 محرم 1424هـ

بغداد تحترق... فما أشبه الليلة بالبارحة!

عود إلى «رثاء المدن»

لم يفت الأوان بعد، ولو بلغ الغزاة ما بلغوا، فلعل في بسالة الاعتراض مهلة لمراجعة الحسابات، كل الحسابات.

لم يفت الأوان بعد، ولو كانت بغداد تحترق، فلا يسقطنَّها إعلام ذوي القربى، ولا يسقطنَّها التخاذل. اتركوا لبسالة الاعتراض ان تصحح الارقام والوقائع، وان تكشف الدوافع.

لم يفت الأوان بعد، فبغداد ـ درة تاج العروبة ـ ليست حديثة عهد بالاحتراق، بله الحرق المتعمد، فهذه ثالثة الحرائق، و«ما اشبه الليلة بالبارحة»، مقالة الشاعر البحريني طرفة بن العبد، فلا تجعلوها ـ يا عربُ ـ سُبَّة فيكم، تلازمكم إلى الأبد. لا تُسلموا بغداد فتصحَّ مقالته إذ أسلمه ذوو قرباه حتى قال:

أسلمني قومي، ولم يغضبوا

لسَوءَةٍ، حلَّتْ بهم فادحَهْ

كلُّ خليلٍ كنتُ خالَلْتُهُ،

لا ترك الله له واضحَهْ

كُلُّهُمْ أرْوَغُ من ثعْلبٍ،

ما أشبّهَ الليلةَ بالبارِحَهْ

فاقطعوا ـ يا عرب ـ الطريق على بغداد، فوالله إن هي خرجت حاسره لتُحرجنَّكُمْ، فتقول فيكم مقالة طرفة، أو يقال فيها وفيكم: «ما كانت الحسناءُ ترفع سترها لو أنَّ في هذي الجموعِ رجالا».

اقطعوا ـ يا عرب ـ الطريق على بغداد، فوالله إن هي خسرت مكتبتها مرة أخرى لتحرجنَّكمْ، والله إن هي تُركتْ ثانية للشُطَّارِ والعيَّارين يحرقونها وينهبون متاجرها ويخطفون عمائمَ رجالها، لتحرجنَّكمْ.

أفتذكرونَ كيف أعادكم حرقُ مكتبتها قرونا إلى الوراء؟

هولاكو هذا العصر لا يفعل غير ما فعله هولاكو ذلك العصر. إنه يعيدكم من دون نعالٍ إلى حِرار الصحراء إذ يسلبكم الحاضرة، ويسومكم المذلة إذ يخطف من تاجِ عروبتكم دُرَّتهُ. واضحكوا من أنفسكم إن أنتم صدقتم وعودَهُ ومعسولَهُ، صدقوا - حَسْبُ - وعده إياكم أنه سيحرق مدينتكم ويعيد بناءها بجنودكم وأموالكم، وتذكروا أنه سبيبع منكم خردة أسلحته، كما فعل البارحة.

وبغداد، بؤرة العلم التي شعت عليكم قبل أن تشعَّ على الغرب والشرق، بغداد اساطينِ المساجد التي اجتمعت إليها حلقات المفكرين وأسست حُرِّيَّةَ المعتقد، ودفعت الشهداء ضريبة لقاء هذه الحريةِ المسماةِ اليوم ديمقراطية، يتهددها الحرقُ مرَّة ثالثة. ويتهددكم انتم هذا الحرق بالعودة قرونا إلى الوراء، وبدفعكم من غير نعال إلى حرارِ الصحراء. ولن ينفع ـ بَعْدُ ـ بكاءٌ على بغداد، ولن ينفعَ ـ بعد ـ «رثاء المدن».

أفتذكرون «رثاء المدن»، هذا الضرب من الشعر الذي نشأ في أدبكم مع حرق بغداد وبعدهُ، أيامَ أوْهَنَ دولتكم عبثُ الأعاجم والأتراك، حتى قال شاعر من أهل بغداد، وقد هاله ما آل إليه عبثُ الفضل وبكر بالشقيقين الأمين والمأمون:

أضاعَ الخلافةَ غِشُّ الوزيرِ

وفِسْقُ الإمامِ وَجَهْلُ الُمشيرْ

فَفَضْلٌ وزيرٌ وبَكْرٌ مشيرٌ

يريدانِ ما فيهِ حَتْفُ الأمير؟!

وأفأعيد عليكم قصة بغداد التي اوغرت صيروتُها تاج عروبتكم صدور اعدائكم؟

بغداد التي بناها المنصور، وأنفق في بنائها ما أنفق، وحصَّنها من داخل وخارج، واختطَّها على هيئة تنشط الاقتصاد وتنشط مجالسَ الفكرِ وحلقات الحجاج العلميِّ الحرّ، كان فيها واحد من أقدم دروس العدالةِ والديمقراطية، فقد بناها المنصور «مدوَّرة لئلا يكون الملكُ إذا نزل وسطها إلى موضعٍ منه أقرب منه إلى موضع»، كما ذكر ابن جرير الطبري.

فاستعيدوا من مصادركم قصة بنائها، وتخطيط قصورها وجوامعها وحماماتها وأسواقها، هذي التي احترقت كلها أيام تطرق الوهنُ إلى دولتكم، وعبث بتاجها الوزراء الأعاجم وقادة الجند الأتراك، وقفز فيها الغلمان على السادة، حتى بكاها الشعراء، فكان في موروثكم الشعري هذا الذي عرف «برثاء المدن». وبئس شعر معاصر يرثي بغداد!. فلا تتركوها تحترق بنيران الشطَّار والعيَّارين اليوم، ولا تتركوها تتهدم بمجانيق هذا العصر، لكي تكتبوا فيها قصائدكم. فَعَل ذلك رجلٌ اخرق احرق روما لكي يتسلمهما معزوفة غثاء على اوتار قيثارته. وبغداد تستصرخ في قرائحكم قصائد المنعة والحماية لا قصائد الرثاء.

ولعلَّ في استعادة رثاء بغداد ما ينبه من غفلة، فوالله إن ما يحدث اليوم شبيه بما حدث البارحة:

كانت الأمور قد أفلتت من عقالها، بعد الذي نجح فيه الوزراء الأعاجمُ والقادةُ الأتراك والصقالبة، وكانت بغداد قد صارت مستباحة يعبث بأمنها الشُطَّار والعيَّارون، ويقذفونها بالمنجنيق كما يقذفها الغزاة اليوم بغير شفقة. ولكم ان تتصوروا مشهد الهدم والحرائق وفرار الحرائر حاسرات، حتى قال عمرو بن عبدالملك العتري الورَّاق:

يا رُماةَ المنجنيقْ

كُلُّكُمْ غير شفيقْ

ما تُبالون صديقا

كانَ أو غير صديقْ

ويلكم تدرون ما

ترمونَ مُرَّارَ الطريقْ

رُبّ خَوْدٍ ذاتِ دَلِّ

وهي كالغصنِ الوريقْ

أُخرجَتْ من جوفِ دنيا

ها ومن عيشٍ أنيقْ

لم تجدْ من ذاكَ بُدّا

أُبرزتْ يوم الحريقْ

كان هذا بعض رثاء بغداد، وقد «كثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد» كما تقول المصادر. لكأن عينا اصابت بغداد، كما يقول الشاعر العتري نفسه:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين

ألَمْ تكوني زمانا قُرَّةَ العينِ

أَلَمْ يكُنْ فيكِ قَوْمٌ كان مسكنُهُمْ

وكان قربُهُمُ زينا من الزينِ؟

إلى آخر القصيدة التي تصور ما يصنع انقسام الرأي، وما تصنع الفتنة التي غالبا ما تكون بتدبير من الغزاة الطامعين. حتى الحسين الخليع الشاعر استشعر هذه الحقيقة، فتساءل، وهو يقصد ان يسأل المعنيين في مؤتمراتهم وبياناتهم الختامية:

ألمْ تَرَ الفتنة أُلِّفَتْ

إلى أولي الفتنةِ شُذَّاذا

وانتقضت بغدادُ عمرانَها

عن رأي لا هذا ولا هذا

هَدْما وحرقا قد أُبيدَ أهلُها

عقوبةٌ لاذتْ بمن لاذا؟

إنها - وكأن الضحاك يشهد احتراق بغداد اليوم - عقوبة لا يسلم منها اليوم من يحسبون انهم «لاذوا» وتركوا بغداد لمصيرها، ولشجعانها الباقية في نفوسهم بقية من فروسية.

أحفل القصائد بتفاصيل ما أصاب بغداد قصيدة للخزيمي الشاعر بلغت مئة وخمسة وثلاثين بيتا، ومطلعها:

قالوا ولم يلعبِ الزمانُ ببغدا

دَ وتعثرْ بها عواثِرُهَا

إذ هي مثلُ العروسِ باديُها

مهوِّلٌ للفتى وحاضرُها

والقصيدة، لولا طولها وقصر عجالتنا، أحرى بأن تعلِّمنا ـ نحن العرب ـ درسا، فبعض القصيدة يقول (وكأني به يعني أمتنا اليوم):

وافترقَتْ بعدَ أُلفةٍ شِيَعا

مقطوعة بينها أياصِرُها

وليس هذا مقام بكاء، وبغداد تحرقها طائرات الغزاة وصواريخهم. ولكن حذار أن تبلغ بنا حال بغداد إلى أن نصبح بكائين، كما فعل بعض فتيانها إذ عبث بها الشطار والعيارون والجواسيس وخونة الأمة، فقال:

بكيتُ على بغداد لمّا

فقدتُ غضارة العيشِ الأنيقِ

تبدَّلنا هموما من سرورٍ

ومن سَعَةٍ تبدَّلنا بضيقِ

أصابتها من الحُسَّادِ عينٌ

فأفنت إهلَها بالمنجنيق

فقومٌ أُحرقوا بالنارِ قسرا

ونائحة تنوحُ على غريقِ

إلى آخر القصيدة التي تصف بغداد وكأن الشاعر ينظمها الساعة وعينه ترى ما تفعل ببغداد آلة الحرب، وآلة الاعلام الغربي.

ويطول حديث رثاء بغداد، في ما أسس بعد حرقها لذلك الأدب الذي عرف بـ «رثاء المدن»، فالقصائد عشرات، والدروس التي فيها كفيلة بأن تنبه إلى ما يجرّه حرقُ بغدا على الأمة... بل هي كفيلة بأن تنبه إلى ما يجرهُ ترك بغداد تحترق!

فلا تتركوا بغداد وحيدة، بين مطرقة غارات الغزاة وسندان الاعلام الاستعراضي السهل والكذب، وتحت مظلة البيانات الختامية التي لم ترق يوما درجة فوق انها محض بيانات!

وللشعراء نقول: هذه بغداد تحترق، فلا تنظروا ان تصير رمادا لكي تدبجوا قصائد الرثاء. ربما اذا التفتم إلى ملحمة الصمود وبسالة الاعتراض ان يفتح الله عليكم بقصائد لا تجعلكم «ثكالى نائحات»!

ويا عرب، لا تتركوا بغداد تخرج حاسرة، فوالله إن هي خرجت كذلك لتحرجنَّكُم





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:34 ص

      بغداد

      بغداد تحترق... فما أشبه الليلة بالبارحة!
      تصغير الخط تكبير الخط
      بيروت - ربيع فواز
      لم يفت الأوان بعد، ولو بلغ الغزاة ما بلغوا، فلعل في بسالة الاعتراض مهلة لمراجعة الحسابات، كل الحسابات.
      لم يفت الأوان بعد، ولو كانت بغداد تحترق، فلا يسقطنَّها إعلام ذوي القربى، ولا يسقطنَّها التخاذل. اتركوا لبسالة الاعتراض ان تصحح الارقام والوقائع، وان تكشف الدوافع.
      لم يفت الأوان بعد، فبغداد ـ درة تاج العروبة ـ ليست حديثة عهد بالاحتراق، بله الحرق المتعمد، فهذه ثالثة الحرائق، و«ما اشبه الليلة بالبارحة»، مقالة الش

اقرأ ايضاً