سقوط صواريخ أميركية أو عراقية داخل الحدود الإيرانية والتركية قد يكون نتيجة خطأ عسكري بسبب قرب مسرح العمليات من الدولتين... ويحتمل أيضا انه يرسل تنبيهات يقصد منها تحذير أنقرة وطهران من التدخل في المعركة الدائرة الآن ضد العراق ونظامه في بغداد.
التفسيرات مفتوحة على كل الاحتمالات. والعامل السياسي هو الأقوى لأنه يرجح أن تكون للحرب القائمة تداعياتها الإقليمية في المستقبل القريب. فالجغرافيا تلعب دورها في الحروب، فهي من جهة قاعدة انطلاق قبل اندلاعها، ومن جهة أخرى جبهة أمامية بعد انتهاء عملياتها العسكرية. تركيا مثلا مهمة جدا للهجوم الأميركي (قواعد ومعابر وممرات)، إلا ان أهميتها الاستراتيجية ستتراجع بعد استيلاء الولايات المتحدة على العراق والسيطرة على آباره ومطاراته ومعابره الجوية والبرية. كذلك إيران ستصبح في وضع صعب، وأصعب من فترة حكم صدام حسين. فالولايات المتحدة ستنتقل بقضها وقضيضها إلى حدودها الطويلة الممتدة من الفاو جنوبا إلى الشمال. وعلى طول تلك الخطوط الدولية تمتد جغرافيا بشرية تؤرق المركز في طهران، إذ تسكن تلك البقاع عشائر و(قوميات) عربية وكردية وتركمانية وأذرية يمكن أن تتحول في أية لحظة إلى قوة ضغط على القيادة الإيرانية التي تعاني بدورها من انقسامات سياسية بين الأجنحة والاتجاهات.
الأمر نفسه يمكن أن يحصل على الجبهة التركية. فالحدود مع العراق «رخوة» سياسيا على رغم طبيعة الجغرافيا القاسية والمعقدة. فعلى الحدود الغربية ـ الشمالية من الجانب العراقي يمكن العبور بسهولة إلى مرتفعات الأناضول ومنها يتم الاتصال بالمجموعات الكردية والعلوية التي تنتشر على بقاع واسعة ومحيط ممتد يصل أحيانا إلى كبرى المدن التركية الواقعة جنوبها، وصولا إلى البحر المتوسط.
لاشك ان الوضع الإيراني يختلف سياسيا في تعامله مع المجموعات القومية (الاقوامية) والقبلية (بلوشستان شرقا وعربستان غربا) قياسا بالوضع التركي. فالحكومة الإسلامية تعترف بها وترى فيها جزءا من التركيب المشترك للدولة الإيرانية التي تتألف من غالبية فارسية (51 في المئة) وتتوزع النسب الباقية على مجموعات مختلفة يحتل فيها التركمان (الاذريون) والأكراد والعرب والبلوش المراتب العليا في التوازن الهرمي للدولة.
المشكلة الأقوى في تركيا؛ فحكومة أنقرة الإسلامية حديثة العهد وخاضعة لقانون المجلس العسكري (الحاكم الفعلي في البلاد)، وتعتمد الدستور العلماني (الاتاتوركي) القومي في قراراتها وتوجهاتها وسياساتها. وهذا هو بالضبط مكمن التناقض في حكومة إسلامية تدير شئون دولة علمانية يحكمها الجنرالات من وراء الستار.
لاشك ان الوضع التركي سيكون الأصعب في المرحلة الأولى. فأنقرة منقسمة ومحتارة بين خياراتها الايديولوجية (الإسلامية) التي تميل إلى العرب وإيران وتريد إقامة «السوق الإسلامية المشتركة» ردا على السوق الأوروبية المشتركة، وبين واقعها الجغرافي ـ السياسي، إذ انها تقع على الطرف الشرقي من أوروبا وتتقاسم الهيمنة مع روسيا ورومانيا وبلغاريا على شواطئ البحر الأسود.
إلى ذلك تعتبر تركيا من دول الحلف الأطلسي (الناتو)، وتوجد فيها مواقع وقواعد ومعسكرات مهمة يعتمد عليها الحلف في استراتيجيته العسكرية وتحديدا مراقبة الحدود الجنوبية للتحركات الروسية. وتركيا أيضا تطمح ـ بضغط من مجلسها العسكري وأحزابها العلمانية ـ إلى الإطاحة بهويتها الإسلامية والانحياز كليا إلى أوروبا، من خلال قبول عضويتها في الاتحاد. وأنقرة أيضا متورطة في التزامات واتفاقات وصفقات عسكرية مع «إسرائيل». والأخيرة تشرف منذ سنوات وبتكليف من واشنطن على تحديث الترسانة العسكرية التركية وتحديدا أطقم الدبابات والمقاتلات الأميركية (اف-15).
يضاف إلى كل هذه العقبات هناك مشكلة المياه وهي شكلت منذ سنوات أزمة ثقة مع سورية (الفرات) والعراق (دجلة) بسبب إقدام حكومات أنقرة على تشييد السدود (يقال إن عددها وصل إلى 200 سد) بتمويل دولي ـ أوروبي للسيطرة على المنابع والروافد والمساقط والمجاري التي تصب في دجلة والفرات، وبالتالي التحكم في مصادر المياه التي تغذي سورية والعراق.
كل هذه العناصر الموضوعية (الجغرافيا السياسية والبشرية)، تجعل من تركيا نقطة ضعف في المنطقة ومحطة للانطلاق في حال قررت واشنطن معاقبة حكومة أنقرة الإسلامية والانتقام من البرلمان الذي عطل خطط أميركا وأسهم في تأخير هجوم الشمال على العراق. ولهذا السبب يمكن أن نفهم تحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أشار إلى مخاطر امتداد الحرب على العراق وانتقالها إلى تركيا.
انتقال المواجهات إلى تركيا خصوصا إذا عبرت قوات أنقرة إلى شمال العراق لحماية حدودها أو انهيار حدودها الجنوبية المتقاسمة مع الكيان الكردي في العراق بسبب ضعف الرقابة وتفكك العلاقات مع أميركا... يعني ان رقعة الحرب امتدت موضوعيا إلى الأقاليم المجاورة. فانهيار العلاقات على الحدود التركية ـ العراقية سيدفع إيران مكرهة إلى التدخل لحماية حدودها أيضا من الجانب العراقي الذي يتوقع أن تشرف عليه الولايات المتحدة لمدة تزيد على السنوات الثلاث، وربما أكثر مما تعلنه واشنطن. فالعراق الذي تريده أميركا يعني ان هناك مشكلة دائمة لإيران وتركيا، وهي قد تضطرهما إلى اتباع سياسات متقاربة في حال تفاهمت الحكومة ا لإسلامية في أنقرة مع الحكومة الإسلامية في طهران... وإذا لم تتفاهما فمعنى ذلك ان الوضع السياسي سيتأزم بينهما وخصوصا في حال نجحت واشنطن في تفجير الوضع الداخلي التركي ودفعت المجلس العسكري الحاكم للإطاحة بحكومة اردوغان ـ غول وحلَّ البرلمان الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية.
المنطقة إذن أمام مخاطر حقيقية، والصواريخ الطائشة على العراق وتركيا مجرد إشارات وتنبيهات، في حال نجحت أميركا في السيطرة بسهولة وبسرعة ومن دون كلفة بشرية تذكر على العراق. فالنجاح في العراق يشجع أشرار البيت الأبيض على نشر استراتيجيتهم ليس ضد إيران وتركيا فقط وإنما أيضا ضد دول الجوار العربي. فـ «إسرائيل» تراقب وتنتظر ولاشك ان لها حصة كبيرة من الغنيمة التي تريد شركات النفط ومصانع الأسلحة ومؤسسات الإعمار والبناء افتراسها لسنوات طويلة... أطول مما نظن ونتوقع
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 200 - الإثنين 24 مارس 2003م الموافق 20 محرم 1424هـ