العدد 200 - الإثنين 24 مارس 2003م الموافق 20 محرم 1424هـ

لودج وحركة الوعي أو المعنى الذي لا يمكن إكماله

الحقيقة المركزية عن الوعي هي المعرفة التي نحملها عن فنائنا. وبحسب علمنا لا توجد قرود تجلس فوق الأشجار لتمعن النظر في قضية موتها، وليس هناك شمبانزي يسأل عما إذا كانت هناك حياة بعد الموت، ولا توجد قرود تسأل عما إذا كان هدف الحياة هو العيش بمعايير أخلاقية، كما أنه ليس هناك غوريللا تستنتج أن الحقيقة الوحيدة هي الحقيقة الفنية. كذلك ليس هناك أي قرد رباح يصنع القنابل ليدمر قرود رباح أخرى، لأنها تختلف في تفسيرها لسبب الموت عن تفسيره هو له.

والبشر وحدهم هم الذين يعلمون بأنهم سيموتون أو متى سيموتون، والبشر هم المثقلون بوعيهم بأنهم ليسوا سوى مجرد آلات تؤدي وظائف معينة، معمولة - بطريقة معقدة طبعا - من أجزاء وقطع كيميائية أو كيماوية حيوية، ولكنهم أفراد مميزون. هذا السؤال الذي يدور عن الوعي أو الذات هو أصعب مشكلة في الفلسفة. فهل من الممكن أن يكون الوعي خارج ممالك العلوم؟ وهل هناك شبح في هذا الجهاز؟ ففي الوقت الذي لا يمكن أن يكون فيه هذا صحيحا، فان هناك احتمالا كبيرا أن لا نفهم أبدا معنى هذه الكلمة بالكامل، إذا كان هذا هو المبدأ الصحيح. وتثبت الروايات والقصص بطريقة ما هذه المشكلة بشكل متقن، فمن غير الوعي - الإحساس بالذات والإحساس بالإنسانية - لا يمكن أن تكتب أية رواية. ومع ذلك فإذا كنا مجرد مخلوقات كيماوية حيوية معقدة فما أهمية خلق أشخاص خياليين بحياة خيالية؟ ويمكنك أن تجادل في أن ذلك خداع مضاعف فوق خداع للنفس.

وما يطرحه لودج هو أن الرواية في الحقيقة هي أفضل بحث موجود في الوعي، ويقول: إن الدماغ هو الجهاز الذي يدير برنامج الوعي، وهذا تمثيل جذاب ولكن بالنظر إليه بقرب أكثر فانه لا يقدم الينا أية معلومات.

قرأ لودج أدب الوعي، وهو موضوع هذه المجموعة من المقالات والمحاضرات والمراجعات والمقابلات. وعلى رغم انه يشير إلى نظرية العقل ونقاط الاشتباك العصبي في الدماغ، فان لودج ناقد نشط ومحب للغة. فالوعي، مثل العلوم، ليس حقا في مقدمة عقله - نحن نتجول هنا في الأدغال اللفظية - ولكن الوعي، كموضوع وكسبب لكتابة الرواية، هو أحد الأمور التي ينهمك فيها لودج بوصفه روائيا. وهو يقتبس قول «جيرترود ستين» مستحسنا إياه «ما الذي يفعله الأدب وكيف؟ وما الطريق التي يستخدمها لفعل ما يفعله؟»، كان هذا هو مبدأه الأساسي على رغم انه يفهم التركيبية والكثير من الأشياء الأخرى المطلوب من أي أديب إنجليزي أكاديمي أن يفهمها.

وبأسلوب إنجليزي مميز وجذاب، صنع لودج حرفة من مقارنة المثقفين بالأشخاص العاديين بدلا من الطريقة التي وضع فيها «ستوبارد» الفلسفة الأخلاقية إلى جانب الألعاب البهلوانية. ويرتكز الكثير من كتب لودج على هذه المقدمة غير المنطقية «نعم نعرف ان هناك أفكارا رائعة، ولكننا نفهم أيضا أن الناس منزعجون بسبب مشكلات اعتيادية جدا. وكما في كتاب «تبي باسمور» الذي يدور حول العلاج النفسي، يصف لودج العلاج النفسي بأنه مثل «الروايات التي يتم بناؤها على نوع من المساواة والمقارنة بين قصتين». من دون تمطيط النقطة تستطيع أن ترى هذه الروايات كنماذج لفكرة الوعي التي تضم في حيز صغير بشكل مربك آلاف الأفكار عن الجنس، وعن عملية سحب مبالغ أكثر من الرصيد الموجود في المصرف، وعن غسل الأطباق، وعن الفناء.

والوعي في الإدراك الأدبي كان موجودا منذ عهد «جويس». هذه الروايات أكثر دقة من أي سيل من الوعي يمكن تذكره لأنها نفسها أعمال إبداع، وليست أعمالا فنية تسترجع ذكراها. على رغم أن لودج يبدو في بعض الأحيان يخلط بين المعنى العام للكلمة كإدراك ثقافي مع المصطلح الفلسفي الأكثر تحديدا، وهو ينفذ على وجه التحديد إلى فهمه للكيفية التي غدت بها أفكار الوعي والأفلام والأدب بعضها بعضا.

إن تقديره لواغ وغريني وعلاقاتهما مع الأفلام أمر رائع، ونقده «لهنري جيمس» على وجه التحديد لفشله ككاتب شعبي، وتقديمه لكتاب فورستر (نهاية هوارد) نموذجي. وكما تتوقع من قراءة لروايته «بيك»، المغامر الأكاديمي هو الشخصية المفضلة.

ويعد الجزء الأخير من الكتاب إعادة إنتاج لمقابلة عن العلاج النفسي، وقد كان رد لودج لأحد أسئلة «كريغ رين» المبالغ في تفصيلها موحيا جدا «أنت تنطق بمعارضات واضحة جدا وذات أفكار رئيسية، ولكن بالنسبة إلي تعد هذه الأمور بديهية في ملاحقة شخصياتي، ومحاولة تخيل كيف سيستجيبون لبعضهم بعضا في ظروف محددة. أنا لا أقول أن قراءتك غير شرعية ولكنها ليست الطريقة التي ألفت بها الكتاب، الروائيون لا يريدون أن يقدموا الكثير من أفكارهم، لأنهم قد يضعفون أو يجعلون الحقائق العامة التي يحاولون أن يبينوها في أعمالهم شخصية جدا». يبدو هذا مثل الصوت الحقيقي للروائي، صوت يحاول أن يكون مخلصا على بعض المستويات الشخصية في مجال الحياة الإنسانية وتفصيلها، بينما يكون واعيا بشكل كبير لهشاشة المشروع وتكافؤ طرفيه. وإلى حد ما فان الروائي الجيد لا يتحرى الوعي عنده بشكل كبير بحيث يمكنه الإضافة إليه عن طريق إثراء الحال الإنسانية، ولو كان ذلك عن طريق رواية خيالية. ولذلك فان أكثر الدول متعة وإنسانية بها أكثر الأدب تطورا وهذا أمر يمكن إثباته.

والادعاء المشجع حول محتويات الكتاب، والذي ينص على أن هذه المقالات والقطع مترابطة من ناحية الأفكار الرئيسية هو ادعاء غير ثابت، ولكن ما يربطها حقا ليس الوعي ولكن الإدراك الواضح جدا لصراحة لودج ونفاذ بصيرته. والانطباع المتفق عليه لهذا الكتاب الجميل هو عن لودج الرجل، وهو روائي ماهر وناقد ممتاز، وكاتب صنع لنفسه مكانا خالدا ومميزا في قانوننا الأدبي. هذه هي الصيغة الوحيدة للفناء على رغم أفضل محاولات الوعي لفهم الفناء.

خدمة الاندبندنت - خاص بـ «الوسط





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً