ان خطاب وزير البلديات والزراعة الذي القاه بمناسبة الاحتفال بيوم المدينة العربية، يذكرني بسمفونيات أم المعارك، ولا صوت يعلو فوق صوت «التشجير» في مملكتنا الغالية.
ولا يعلم المرء هل تسمى المساحات الخضراء في البحرين - ان كان هناك ثمة مساحات - هل تسمى تشجيرا أم «تنخيرا» أم تصحيرا. تلك هي مشكلة وزاراتنا لا تعيش الا بالمساحيق الصحافية ولا يهمها كثيرا ان كان ما تنتجه ماكينتها الاعلامية في المؤتمر يثير غثيان المواطن أو يبعث على اسعاده... المهم هو تلك الديباجات المدائحية، التي عادت ما تثير الضحك والحزن في الوقت ذاته.
ففي الكلمة المتقطعة التي ألقاها الوزير والتي كانت تحمل نكهة الكلمات المتقاطعة تماما كتقطيع اشجار البساتين الخضراء التي أصبحت «من بيضها الثمين يأكلون» على حد قول نزار قباني في قصيدته: «تلك البساتين لكم دجاجة من بيضها الثمين تأكلون... تلك البساتين لكم قميص عثمان الذي به تتاجرون». وهذا هو الواقع... في احتفال مأتم الشجرة وليس اسبوع الشجرة راحت تلك البكائيات الممسرحة تعزف لتلك الخطوات «الرشيدة» و«الجريئة» لحفظ السلطة التنفيذية للمساحات الخضراء في كل مؤتمر واحتفال وموقع... الكلمات تلقى وتتصبب منها كلمات المديح لواقع بيئي متخلف بل مليء بالثقوب القانونية والادائية، بل والمتورطون فيه ايضا قطاع الزراعة بمن فيهم احد رموزها الذين بدأت تفوح منها ومنه تلك المحسوبيات التي بدأت تطغى حتى على تلك القمامات المتراكمة والمتكدسة جراء خصخصة «النظافة» التي باتت تسمى بحصحصة «من المحاصصة» اي توزيع الحصص (وياعين الرقابة ما شفت النور). مسكينة وزارة الزراعة ومساكين هم المواطنون فالماليزيون لم يستطيعوا ان يجعلوا من نظافة بيئتنا كوالالمبور ثانية. كما وعدنا بسنغافورة ثانية في منطقتنا الشمالية وبتنا كلما سمعنا تصريحا نزداد قتامة، وخصوصا اذا جاءت التصريحات امام المحافل والمؤتمرات، فهي تصور مدى تلك الاهتمامات العليا من تشجير «تنخير»، والمحافظة على المساحات الصحراء، عفوا الخضراء...
أليس غريبا ان تأتي كلمة الوزير وهي ترفع شعار «نتحرك معا لمكافحة التلوث، والمحافظة على التوازن البيئي بالمزيد من الخضرة»، بعد كل ما جرى على مساحاتنا الخضراء؟
... ان كلمة «مزيد من الخضرة» كلمة جميلة ولكنها أصبحت تعطي مدلولا عكسيا في نفسية المواطن وذلك لما يراه من تراجع فاضح للواقع البيئي والبلدي والتشجيري لهذه الأرض... فبشعار النظافة وقعنا في مأزق «النظافة الماليزية» وبشعار التشجير سقطنا في عملية تقتيل وتخريب مزارع بني جمرة... فالوزارة راحت بالامس وصرفت «الملايين» من الدنانير لتوصيل المياه المعالجة إلى المناطق الزراعية في بني جمرة وبعد انتهاء المشروع تلخص الامر في «مياه بلا مزارع»!
بل راحت في عملية خنق مع سبْق الاصرار بتعطيش «الخصم» «المساحة الخضراء» «فاكهة خطابات المؤتمرات»، ومن ثم بقتلها بالمواد الكيماوية... وراحت الفلل تستلقي و تترنح مكان الزراعة لتوزع البساتين «محاصصة» وبالكوته لتلتف على كل فيلا... «ليشقى بنوها» و«النعيم لغيرهم» فكأنها والحال «بطيخة عذاري»، طبعا، مع الاعتذار لشاعرنا ولعذاري ايضا التي قتلت هي الأخرى في يوم من الايام ومات شجرها وقتلت حديقتها والتي أصبحت مرتعا للعب القطط والفئران وكذلك الانسان في ظل مشروعات عالمية قائمة على سياسة تخضير وتشجير وتجميل بيئتنا البحرينية كما بالطبع يأتي في بداية ووسط ونهاية كل كلمة مؤتمرية.
الجميل في الامر ان الكلمة التي القيت جاء فيها توصيف تلك البطولات التشجيرية للوزارة بطول هذه السنوات التي جعلتنا من «أم المليون نخلة» إلى «أم المليون نحلة»، إذ ورد في الكلمة «اما بالنسبة إلى الشجرة و النحلة عفوا (النخلة) فقد تم الاهتمام بها بصفة خاصة وزراعتها».
وهذا أمر يشكر عليه المسئولون في الوزارة، وخصوصا قطاع الزراعة فالمسئولون الاوائل هناك قاموا بالواجب وأكثر. وبالذات بعض المسئولين القدامى والمعروفين في قطاع الزراعة. الغريب على رغم كل «هذا التشجير» الا ان الوزارة لم تفز ولا بجائزة واحدة فقد فازت عمّان بالجائزة الاولى ودبي (صحراء الامس، حسناء اليوم» بالجائزة الثانية والاسكندرية بالثالثة كما فازت الرياض وليبيا، عدا وزارتنا الغالية فهي لم تفز. وقد يسأل المواطن: لماذا لم تفز وزارتنا الا بالخطب والتصريحات؟... الجواب طبعا لا يحتاج إلى كعكة كتلك التي وضعت يوم أسبوع الشجرة، فقط على المواطن ان يذهب إلى بساتين بني جمرة وسيعرف الاجابة، سيفهم لماذا تفوز دبي ولماذا تخسر البحرين؟... قلتها سابقا: لان هناك بلديات بلا تصريح وهنا تصريحات بلا بلديات... والقضية الاهم ان طاقم البلديات هناك مليء بالمتخصصين وممن يحملون وعيا زراعيا وبيئيا وأفقا سياحيا، وهنا وزارتنا ينقصها هذا الوعي الاكاديمي اللهم الا من رحم ربك، فبساتين البحرين قطعت وأصبحت محاصرة بالفلل.
كما جاء في الكلمة: «والوزارة تحرص على غرس اكبر عدد ممكن من النخيل في مختلف أنحاء المملكة وتهدف إلى نشر الوعي البيئي بين الناشئة». بالطبع بلا تعليق... فهل البحرين تحتاج إلى غرس نخيل وهي أم الميلون نخلة؟... هل من المنطق أو من الوعي المالي ان نقطع النخيل وهو ينبت مجانا لنأتي بعد ذلك لنغرسه مرة اخرى وبالمال؟ اذن لماذا قمنا بقطعه؟... الا اذا كانت لفظة «غرس» كما جاء في الكلمة انما جاءت عى نحو المجاز وليس الحقيقة فهذا شيء آخر. وجاء في الكلمة (ان الوزارة «قامت» بتنفيذ الكثير من المشروعات التجميلية للطرق والميادين والساحات العامة والسواحل والنصب الجمالية والتذكارية...».
وهنا عندي اقتراح لوزارتنا ألا تنسى ان تضع نصبا تذكاريا يمثل صورة عين عذاري امام عين عذاري، ونصبا يمثل مجسما لحديقة قصاري وان تضع نصبا يذكرنا ببساتين بني جمرة وباربار وكرباباد والمرخ وكرانة وسند!
وأن تضع نصبا لبحر المنطقة الغربية ونصبا آخر يمثل صورة عامل بحريني ينظف الشوارع يذكرنا بما قبل الخصخصة وحبذا لو يوضع نصب جمالي لحديقة المنطقة الشمالية، والافضل من كل ذلك وضع مجسم شمعي لأكبر نادٍ في المنطقة الشمالية لشارع البديع نادي العنقاء الذي لم نره ولن نراه.
وفي نهاية الكلمة قال الوزير: (الحكومة قامت مشكورة بتخصيص موازنات كبيرة لمشروع اعادة استخدام المياه المعالجة...).
والسؤال هنا: وهل بقي هناك شيء يعالج لبيئتنا أو زراعتنا؟ يقول المناطقة: إنها قضية سالبة بانتفاء الموضوع وكفاية تصريحات فلقد أتخمنا وعودا والموازنة هذا العام (24 مليون دينار). طبعا مع العجز.
حقيقة واقعنا الزراعي والبيئي لن يتغير مادمنا سنعيش على المجاملات الصحافية والديباجات التي لا نغير فيها الا التاريخ لنلقيها كل عام في مؤتمر... والغريب ان العبارات ذاتها وأحيانا تتكرر في كل مؤتمر. بالطبع الشيء الذي يتغير هو المسئول وكذلك المساحات الخضراء
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 198 - السبت 22 مارس 2003م الموافق 18 محرم 1424هـ