مع نشر وثيقتي ريتشارد بيرل التي كانت بمثابة محاولة لإيجاد (حسم) سياسي لدخول القوات الاميركية للعراق من دون قتال، تكون قد طويت صفحة من صفحات الأوهام عن الدوافع «الديمقراطية» للإدارة الاميركية بخصوص المنطقة، كما يكون على الذين درجوا على تصدير الأوهام عن أن الهدف من الحرب هو إزالة الرئيس العراقي أن يتعلموا ألا يخلطوا رغباتهم ووترهم الشخصي من كل الميراث السلبي أحيانا الذي عرفته حداثة وإيديولوجية التجربة السياسية، مع التحليل السليم، وبالتالي عدم التورط في الشبهة.
المشكلة أن الذين يقرأون الأحداث اليوم يقرأونها بمساحة واسعة من إسقاط الرغبة على الوقائع، إذ تختلط الرؤية وتضطرب بشدة.
ريتشارد بيرل كان أحد أهم مستشاري نتنياهو، وهو اليوم أحد أهم الذين يخططون الاستراتيجية الاميركية الجديدة؛ فضلا عن كونه أهم شخصيات اليمين الجديد في الولايات المتحدة الاميركية. وعندما بدأت محاولته مع أطراف عربية لإيجاد حل سياسي، كان الهدف ليس تجنب الحرب حرصا على الشعب العراقي، أو لمجرد استبعاد الحرب، لكنه كان يعمل لتجنب الخسائر الاميركية في المال والبشر مع الإبقاء على الهدف الأساسي منها وهو دخول العراق والسيطرة عليه؛ فالوثيقتان تعلنان بوضوح لا لبس فيه أن على العراق أن يقبل إما تنحي الرئيس العراقي وقبول الاحتلال الأميركي أو أن عليه أن يواجه الحرب واحتلال العراق تحت عنوان التحالف دولي.
وهنا لم يعد على أحد أن يقبل الأوهام أو أن يصدرها بأن زوال الرئيس العراقي ونظامه هو الحل.
ولسوء حظ رواد السياسة من المتثاقفين اعطت وثيقة بيرل صدام حسين ونظامه اشتباكا مع ضروب من «الوطنية» و«القومية»، عندما بات عدم تنحي صدام مرتبطا بالمقاومة للاحتلال! صحيح أن كل الذين عانوا من الرئيس العراقي لن يقاوموا طلبا للخلاص، تماما كما فعل بعض اللبنانيين الذين استقبلوا جيش الاحتلال الإسرائيلي بالرز في العام 1982، فيما ارتد آخرون ليصبحوا مقاومة ضد الاحتلال، إلا أن الدخول الاميركي اليوم لا يجب أن يكون تحت أوهام الخلاص من صدام و من دون مقاومة، ولا يجب على أحد اليوم الالتفات إلا إلى أن وطنه سيستباح.
نعم، لا نملك إزاء التاريخ وأحداثه وانفعالات البشر أن ننظر عليهم، ولكن لا يجب أن نتوقف عن القول: «بلادكم وإن جارت عليكم عزيزة وأهلكم وإن ضنوا عليكم كرام». وعلى التاريخ أن يفعل فعلته.
دعونا إلى ما يشكل مخرجا للخلاص، وفرصة للإيقاع بالاميركيين، وزج العراقيين والعرب في معركة مشتركة.
والمسألة باختصار تكون على النحو: دعوة من الرئيس العراقي لمصالحة وطنية عراقية شاملة وعلى عجل ووعد قاطع بالمشاركة في الحكم من موقع التساوي، تحت إشراف جامعة الدول العربية ووضع مدة زمنية لا تتجاوز سنة بعد اندحار الاحتلال لانتخابات ديمقراطية، وسن دستور دائم للعراق، وليكن ذلك بضمانة من بعض الدول العربية، وإعلان اعتذار عن جميع الأخطاء بحق شعبه وجواره، والدعوة للقتال دفاعا عن شرف وكرامة العراق.
لا مكان اليوم لترف الخلافات ولنكء الماضي بكل ما فيه، وعلى من لا يعرف أن يعيد قراءة شروط ريتشارد بيرل لاستسلام العراق، وليس رئيسه فقط، وهي شروط أقسى مما ألقاه الجنرال الفرنسي غورو على سورية عشية احتلالها بعد الحرب العالمية الاولى، ولم يجد وزير الدفاع يوسف العظمة آنذاك إلا أن يذهب مع جنوده مع إدراكه بعدم التوازن بين القوتين للقتال، ولهذا لا يجب أن يدخل الاميركيون العراق من دون مقاومة، وهذه مسئولية النظام والمعارضة وسائر فئات الشعب، ونجد لزاما علينا أن نلخصها على النحو الآتي:
أن يعترف صدام حسين بأن العراق طور ويمتلك أسلحة دمار شامل. ويزود الأعضاء الخمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن بمعلومات كاملة وتامة عما لدى العراق وعن مكان، إخفائه لتلك الأسلحة، وعلى الرئيس العراقي أن يستقيل ويغادر العراق مع أبنائه وبعض وزرائه. وإمعانا في إذلاله يقادون أولا إلى قواعد عسكرية اميركية ثم يرحلون إلى أماكن معزولة ومحروسة جيدا بعيدة عن العراق، يستطيعون فيها العيش من دون التواصل مع ما يقع خارج جوارهم المباشر، و تستسلم هيئة الأركان العامة العراقية وقيادة القوات المسلحة العراقية إلى ما يسمى قيادة الأمم المتحدة وهي تحالف القوى العسكرية بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، على أن تدخل تلك القيادة المزعومة إلى العراق بقوة احتلال وتنزع أسلحة العراق وليس فقط أسلحة الدمار الشامل وتخضع ضباط وعناصر الاستخبارات العراقية والحرس الجمهوري والخاص لاحتجاز الضباط، على أن يقدم جميع الضباط العراقيين تقاريرهم إلى تلك القيادة التي ستبقى قوة احتلال لعامين على الأقل بعد انتهاء الولاية الأولى للرئيس العراقي الجديد، الذي سيستمر خمس سنوات، أي سيبقون سبع سنوات، إذ سيتم تشكيل ما يسمى مجموعة الأمم المتحدة الانتقالية للإشراف على التغيير نحو ديمقراطية مزعومة تحت الاحتلال في العراق، على أن تتولى مع قيادة الأمم المتحدة الحكم إلى أن يمكن تشكيل حكومة عراقية جديدة، وباستدراك تقول وثيقة ريتشارد بيرل إنه يمكن تمديد حكم المجموعة سابقة الذكر فيما ستحل الهيئة القضائية العراقية، وسيجري تعيين قضاة جدد من قبل الحكم السائد دوليا، على أن يفرض الدستور الجديد تبني العراق للقانون المدني والجنائي الغربي. بمعنى القضاء بشكل كامل وتحت رعاية من قضاة معينين من داخل وخارج العراق على كل قواعد الزواج والميراث والقوانين المدنية كلفة ذات الأثر الإسلامي، وبالتالي إلغاء كل هوية عربية إسلامية للعراقيين، وإلغاء بقوة السلاح والاحتلال كل نموذج مرتبط بقيم العراق وتراثه، وبغض النظر عن قبول أو عدم قبول العراقيين لذلك، وبغض النظر عما إذا كانت الظروف تسمح أم لا، وأهم من هذا وذاك إلحاق العراق بالنظام التعددي والاقتصاد الرأسمالي. وتطبع عملة جديدة تدعمها احتياطات النفط العراقية وتجمد كل الحسابات المصرفية الخارجية لمسئولي نظام صدام حسين إلى أن تقرر «مجموعة الأمم المتحدة الانتقالية» إذا كان يجب أن تحول هذه الحسابات الى الحكومة العراقية، بمعنى أن هذه الأموال قدلا تعود للعراق، لأن الوثيقة تقرر أن هذه الأموال سيقتطع منها كلفة الحرب!!! وكلفة تغيير النظام وتسوية الديون العراقية. كما تلغى وتبطل كل العقود والاتفاقات التي وضعت، وسيتم منح عقود تطوير وإنتاج النفط والغاز على أساس تنافسي.
أما إذا لم يقبل صدام حسين بالتنحي لن تقبل الولايات المتحدة بالمجموعة الانتقالية بقيادة الأمم المتحدة، إنما سيكون هناك احتلال من تحالف تقوده الولايات المتحدة. وكلاهما أمر واحد لا يجب على أحد التوهم أن الخلاص يكون بقوة استعمارية كما فعل البعض بالاستقواء على الدولة العثمانية بقوى احتلال غربية!
وباختصار دخول العراق بقوة احتلال أصبح أمرا محتوما، ، سواء بخروج صدام حسين أم بعدم ذلك. ولهذا لا يجب على أحد أن يقع في الأوهام
العدد 196 - الخميس 20 مارس 2003م الموافق 16 محرم 1424هـ