إذا صدقت المقولة أن القوة هي الحق (Might is Right)، فلن يحاسب أي كائن حي أميركا، رمز القوة في العالم، على جرائمها ضد الإنسانية. ولكن المؤمن بقضيته وعدالتها على استعداد لتحدي الطاغوت ومجابهة الشيطان، مادام يعتقد أنه على حق. لو رجعنا إلى التاريخ لاتضح لدينا أن مقاومة الاستعمار قضية جيو-سياسية، الاستعمار لم ينسحب طوعا من أراضينا المحتلة، ولولا حركات التحرر في العالم، ولولا مقاومة الشعب لهيمنة البلدان المستعمرة، لما أجبر الاستعمار على الانسحاب من البلدان المستعمرة، وجرَّ أذياله مهزوما أمام القوة الشعبية العاتية.
من هنا فإن التشدق بالحفاظ على المصالح، ومزايدة بعض القادة على نفاق القوة الأعظم حبله قصير جدا. فسيلاحظ المنتفعون أن القوى العظمى أو بالأحرى القوة المهيمنة على مقدرات الشعوب، تستغلهم أبشع استغلال لتحقيق مآربها الاستعمارية القديمة. أما الإغراءات المالية المقدمة من الدول الكبرى، فإنها ذات منافع وقتية فقط، وخصوصا ان استراتيجية الدول الكبرى تعتمد على اتباع سياسة ذات مبدأ ثابت، وهو أنه ليست لها هناك صداقات دائمة بل مصالح دائمة، والصداقات تتغير وتتأثر بالمتغيرات الدولية، وهذه قمة المتغيرات السياسية التي نادى بها هنري كيسنجر، وتنتهج مسار متطلبات المصالح السياسية للدولة الأعظم في العالم.
بطبيعة الحال فإن أميركا التي تملك أعتى وسائل الاعلام في العالم لابد أن يروج اعلامها لخدمة مصالحها الخاصة. وسائل الاعلام الأميركية تروج أميركا باعتبارها منقذة للعالم من الأشرار الذين يمتلكون أسلحة الدمار الشامل ويهددون سلام العالم، وتناست أنها قوة عظمى بفضل قوتها العسكرية التي تعتمد عليها، عن طريق التهديد بالأسلحة الفتاكة التي تمتلكها لتخويف العالم، وتذكيره بجبروتها. وهنا تكمن المفارقة العجيبة. ونتساءل بهذا الصدد، من هم الأشرار ومن هم الذين يملكون الأسلحة الفتاكة التي تهدد العالم؟ المفارقة الأخرى هي كيف نتعرف إذا على تعريف بوش الابن لمحور الشر؟ هل هو الضارب أم المضروب؟ ولا غرابة في أن يكون العراق وإيران - الدولتان الإسلاميتان - عضوين دائمين في «محور الشر» ماداما ليسا عضوين في محور طاعة أميركا. ولكن ما الاستراتيجية الإعلامية الأميركية؟ ربما الاستراتيجية بحسب رأيي تعتمد على العناصر الآتية: إن أميركا زعيمة العالم الحر هي منقذة الشعوب من الدكتاتوريات الرهيبة، وعلى أميركا يقع العبء الأكبر في دمقرطة العالم وتحريره من الإرهاب، ولتحقيق ذلك لابد من الدخول في حروب عادلة للمحافظة على حقوق الإنسان واستتباب السلام في العالم، وذلك بالقضاء على الدكتاتوريين الطغاة مضطهدي شعوبهم. رسالة أميركا إلى العالم أن زعيمة العالم الحر ستحرر كل شعوب العالم من اضطهاد حكامهم، باسم «الاعلان العالمي لحقوق الإنسان».
إذا باسم الديمقراطية يجب أن تدخل أميركا حروبا ضد دول صغيرة لا حول لها ولا قوة، وتدمير شعوبها وبنيتها التحتية واقتصادها، وهدر كرامتها واستقلالها الوطني وانتهاك سيادتها الإقليمية، وكل هذه الممارسات مخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. المثير للسخرية انه على رغم انتهاكات أميركا لحقوق الشعوب، فإنها تتهم الدول الأخرى بانتهاك حقوق الإنسان وبذلك تصبح أميركا الحكم والجلاد. وبدلا من أن يحاكم مجرمو الحرب الأميركان، نرى يوما بعد يوم أنها تجر قادة من بلدان أخرى لمحاكمتهم باعتبارهم مجرمي حرب، بينما تتغاضى عن جرائم شارون والجنود الأميركان في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق والصومال والفلبين وأميركا اللاتينية، واغتيال قادة البلدان الافريقية أمثال باتريس لوممبا في الكونغو والأمين العام السابق للأمم المتحدة داج همرشولد وغيرهما... وهذا الاختيار أحادي الجانب لازدواج المعايير عند القوى العظمى وخصوصا أميركا.
أبشع الجرائم الأميركية شهدتها ساحة أفغانستان، إذ قصف هذا البلد الفقير على امتداد أسبوعين بالطائرات والقنابل والصواريخ. بالنسبة إلى الأميركان ما كانت تلك القنابل إلا مبيدات حشرية تبيد حشرات ضارة على الأرض. أنا اتفق مع الآخرين على أن ضربة 11 سبتمبر/ أيلول، غيَّرت وجه العالم وأصبحت وبالا على المسلمين والبلدان الإسلامية. وأبسط مثال على ذلك ما تشهده الساحة الغربية من تمييز عنصري ضد المسلمين في أوروبا وأميركا حتى استراليا وكندا وبعض دول آسيا وأميركا اللاتينية. وكان هناك اتفاق بين المسلمين، على أن سياسة أميركا الظالمة في الشرق الأوسط، والمعادية للحقوق العربية والإسلامية، خلقت لها مناخا من الكراهية وعداء الشعوب الإسلامية ودول العالم الثالث. ومهما كانت مميزات السياسة الأميركية وحسناتها فإن مجرد ربط الفرد المسلم والعربي سياسة أميركا بالقضية الفلسطينية يكفي لإظهار عدائه للموقف الأميركي المؤيد لـ «إسرائيل». هناك كثرة من المسلمين تبرر تفجيرات نيويورك وخصوصا الفئة الأصولية، والسبب ممارسات أميركا الظالمة وما أكثرها، وخصوصا القتل العشوائي للمسلمين في أفغانستان والعراق والصومال والفلبين، لا يقل بشاعة عمّا حدث في نيويورك، بل هو أكثر وحشية، كونه يأتي من دولة تعتبر نفسها شرطي العالم ومسئولة عن تطبيق القانون الدولي، وقيِّمة على ما تسميه العدالة والشرعية الدولية. الظلم والقتل والإبادة يقع على أناس أبرياء عزل لا ذنب لهم ولا علاقة لهم أبدا بما حدث.
وكلما طالبت الدول العربية والإسلامية، بعقد مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب، تتهرب أميركا من ذلك التعريف، والخوف أن يقدم إلى العالم تعريف للإرهاب لا يعجب أميركا، ويقف عائقا في تنفيذ مصالحها باستغلالها لمفهوم الإرهاب من وجهة نظرها البحتة. نحن لا نقبل أن تلصق صفة الإرهاب بحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، هذه المنظمات منظمات قانونية وشرعية ممثلة لشعوبها، تقاتل من أجل تقرير مصير شعوبها وتحرير أراضيها من الاحتلال وممارساته اللاانسانية، فكيف يمكن الربط بين القضيتين: الإرهاب والتحرير؟ فتاريخ أميركا في العنف والإرهاب والاجرام عريق جدا. أي متتبع لفيلم «عصابات نيويورك» المثير للجدل الذي عرض أخيرا في صالات السينما بالبحرين، لا يحتاج إلى معادلة أرسطو لاكتشاف أن المجتمع الأميركي برمته مجتمع إرهابي قام على مبدأ العنف والقوة، فمن يملك القوة يملك أميركا وثرواتها وقدراتها، ولا ننسى أبدا كيف استعملت القوة والعنف والقهر لترويع وإبادة ملايين من سكان البلاد الأصليين، الذين يطلقون عليهم بسخرية الهنود الحمر. الأميركان لم يبيدوا السكان الأصليين فقط، بل أبادوا ثقافتهم وعاداتهم ولغتهم وتاريخهم ونتاجهم الإنساني والفكري. من ناحية أخرى، اتهام الدول الضعيفة بامتلاك أسلحة الدمار الشامل وتهديد البشرية والسلام العالمي، واتهام العراق بالذات بأنه يشكل أكبر مصدر للتهديد، فإننا نذكر أميركا أن العراق لم يلق القنابل النووية على أكبر المدن اليابانية (نكازاكي وهيروشيما)، ويبيد ويقتل الأطفال والشيوخ والزرع والنبات، وتشويه مئات الألوف من المدنيين الأبرياء. ولم يقصف العراق أو كوريا الشمالية أو إيران أو أفغانستان مدينة درسن الألمانية بالطائرات لعدة أيام وقتل 100000 شخص، بعد توقيع ألمانيا وثيقة الاستسلام. لقد زرت مدينة درسن وشاهدت أهوال القصف الأميركي في متحفها الرئيسي، وتلك المشاهدات تدل على كراهية الأميركان للألمان من دون مبرر، على رغم ان ألمانيا لم تهاجم أميركا، وعلى رغم أن الحرب العالمية الثانية حسمها جيش الاتحاد السوفياتي الذي فقد 25 مليون ضحية، فإنه لم يرتكب فضائع مهولة، وجرائم في حق البشرية، عند احتلاله مدنية برلين كما فعل الأميركان في درسن. تاريخ الإجرام الأميركي لم يتوقف عند هذا الحد فقط، بل تبعه مسلسل طويل من حوادث الاعتداء والإجرام: في حرب الكوريتين قتلت أميركا الآلاف، في فيتنام قتلت أميركا 2 مليون فيتنامي، وقتلت ملايين في الهند الصينية، وقتلت مليون طفل عراقي جوعا وبالقصف والدمار، واغتالت قادة أميركا اللاتينية أو خطفتهم، أمثال نوريغا وغيره، بالإضافة إلى المجازر في حق اليندي وفي حق شيلي وبوليفيا وكولومبيا والأرجنتين وغيرها من بلدان أميركا اللاتينية، ناهيك عن احتلالها الدمنيكان وهايتي، والجرائم الأخرى البشعة التي لا يمكن حصرها، التي ارتكبت على يد اليهود بالسلاح الأميركي. ولا بضحايا الانقلابات العسكرية، والمؤامرات، التي صنعتها أميركا في كل زاوية من العالم، وراح ضحيتها الألوف من الأبرياء. ولا بملايين الناس الذين وقعوا ضحايا الظلم والسجن والتعذيب، على يد أنظمة مجرمة مارست الإرهاب، وانتهكت أبسط حقوق الإنسان، صنعتها أميركا، وضمنت آلتها العسكرية، واستخباراتها، الحماية لها. لماذا لا نحاسب أميركا على انتهاكاتها للقانون الدولي وحقوق الإنسان لاحتجازها المعتقلين السياسيين الأفغان في غوانتنامو من دون محاكمة عادلة واعتبارهم مجرمي حرب. وأخيرا لماذا تعترض أميركا على إنشاء محكمة الجنايات الدولية؟ أليس لأنها تعي تماما أن أول عمل للمحكمة هو محاسبة مجرمي الحرب الأميركان من دون غيرهم؟ أليس معنا حق في المطالبة بمحاكمة ومحاسبة أميركا؟ السؤال المطروح الآن هو: مَنْ يقوم بذلك؟
العدد 194 - الثلثاء 18 مارس 2003م الموافق 14 محرم 1424هـ