وظيفة المفتي من الوظائف المستحدثة في الدولة الإسلامية - فهي لم تكن موجودة في القرون الأولى وإنما كان يمارسها القادرون عليها والذين تثق الامة بصلاحهم وإخلاصهم وكانوا يقومون بها احتسابا من دون أجر، ومع أنها لم تكن وظيفة رسمية في العصور الاولى إلا ان فقهاء المسلمين اهتموا كثيرا بالحديث عن الفتوى وعن المفتي وعن دورهما في المجتمع المسلم ومما قيل في تعريف المفتي «هو الفقيه الذي يبين حكم الله في الواقعة ولا يملك ذلك إلا المجتهد الذي خص باستنباط الأحكام الشرعية من مآخذها وفق القواعد الاجتهادية والبراهين الاستدلالية المقررة.
ومع أهمية المفتي فإن كثيرا منهم كانوا يتحاشون قبول أي منصب ديني وكانوا يبتعدون عن كل المناصب التي تربطهم بعجلة السياسة سواء أكانت قضاء أم إفتاء أو ما شابهها وكان هذا الابتعاد خوفا من تعرضهم لأي نوع من الضغوط المؤثرة على مواقفهم الدينية وكانوا في بعض الأحيان يرون أن مجرد الاقتراب من مجالس الحكام والتردد عليها موضع ريبة وشبهة ما جعلهم يبالغون في الابتعاد عنها، وتحمل كثير من المصائب.
ولم تخل الأزمنة بعد ذلك من علماء أفداذ كانوا يعرفون حق الله عليهم كما كانوا يحترمون العلم الذي يحملونه رأينا بعض هؤلاء من شيوخ الأزهر عندما كان هذا المنصب بالانتخاب فكان شيخ الازهر آنذاك قويا لا يخشى سطوة الحاكم إذا خالفه في رأي أو قول ويحكي التاريخ أن شيخ الأزهر في عهد الخديوي إسماعيل أفتى ببطلان ما فعله الخديوي من أخذ الأوقاف وشرائها بمبالغ زهيدة ما أغضب الخديوي عليه لكن لم يأبه بهذا الغضب لأنه كان يخشى غضب الله واستمر متمسكا بفتواه. ودار الزمن دورته وأصبحت المناصب ذات الصلة بالدين وظائف رسمية وأصبح كثير من الناس يتنافسون عليها ومنها بطبيعة الحال منصب المفتي وهنا تكمن المشكلة ومن هنا كذلك بدأ الضعف يستشري في هذا المنصب إذ أن الحكام بدأوا بمحاولة التأثير على المفتين لإصدار فتاوى تتماشى مع رغباتهم حتى وإن كانت هذه الرغبات لا تتفق مع المصالح العامة للإسلام فالحاكم في مثل هذه الحالات لا يسأل المفتي عن حكم الشرع بل يطلب منه فتوى شرعية تبرر موقفه وعمله فالحاكم هو الذي يفصل الفتوى وليس على المفتي إلا العمل بمهارة للبحث عن النصوص أو تأويلاتها ولي أعناقها ليقدم للحاكم ما يطلبه ويذكر لنا التاريخ ان سلطان الدولة العثمانية عندما وقع معاهدة أدرنه والتي اعترف فيها بحق اليونان في الاستقلال عن الدولة العثمانية العام 1839 رأى السلطان أن يحصل على فتوى تجيز التنازل عن بعض أجزاء الدولة الإسلامية فاستجاب المفتي لطلب السلطان مع ان الاولى به ان يطالب السلطان بالدفاع عن الدولة الاسلامية. ولعلنا نعرف كذلك أن السلطان عبدالحميد الثاني خلع بفتوى شرعية من المفتي محمد ضياء الدين أفندي بالتواطؤ مع القوى الماسونية والعلمانية ذات النفوذ في تركيا آنذاك وذلك بعد رفض السلطان السماح لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين. ثم انفرط العقد بعد ذلك بصورة أوسع وأشمل فرأينا أحد المفتين يحلل الربا تحت مسميات اخرى بعد ان كان قبل ذلك يحرم مثل هذا النوع من التعامل بل إنه لم يكتف بهذا الصنيع بل الزم غيره ممن يعملون تحت يده بمثل هذه الفتوى الشاذة، كما رأينا البعض الآخر يحرمون العمليات الاستشهادية ضد اليهود المغتصبين للبلاد الاسلامية بعد ان كانوا يحللونها ثم عادوا مرة اخرى للقول بحلها بعد ان اختلفت الظروف السياسية وكأن هذه الظروف هي التي تملي عليهم نوعية الفتوى التي يصدرونها. ومن طرائف هذا النوع ان حوالي مئتين من علماء الشريعة في بلد عربي أفتوا بتحريم التعاون مع أميركا و«اسرائيل»، في عدوانهما على العراق او فلسطين او اي بلد آخر بما في ذلك توفير أي نوع من التسهيلات باستخدام الأراضي أو الاجواء أو اعتبار ذلك نوع من الخيانة - لله ورسوله وللمؤمنين فكان تعليق الحكومة على هذه الفتوى بأنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء وأنها خروج على الحكومة. فهل الفتوى لها خطوط حمراء أو خضراء أم انه تدخل في الفتوى ولا شيء آخر، ومن هذا النوع من الفتاوى تحريم النظر الى قناة الجزيرة بحجة أنها تسبب الفتنة وتدعو إلى التفرقة مع ان منهج هذه القناة لم يتغير منذ افتتاحها وحتى الآن فما الذي جد فيها كي يتبرع أحدهم بمثل هذه الفتوى وكيف يمكن تفسيرها ولماذا الآن بالذات؟ ثم هل يستحق الأمر كله إصدار فتوى بالنظر أو عدم النظر إلى قناة فضائية ولماذا يحشر بعض الناس أنفهم في مثل هذه القضايا التي لا تليق بمكانتهم؟! أعتقد انه تكوّنت لدى الناس حنكة يستطيعون بواسطتها التمييز بين الغث والسمين والنافع والضار ولا أعتقد أن أي فتوى يمكن أن يكون لها تأثير في هذا الموضوع بل إن هذه الفتوى قد تجعل الآخرين يزيدون تعلقا بهذه القناة على مبدأ كل ممنوع مرغوب، لماذا لا نترك هذه المسألة إلى رجال الإعلام وقد قالوا فيها كلمتهم كما أن وزراء الاعلام في دول الخليج حددوا موقفهم منها فلماذا لا تترك الأمور إلى اصحابها وينأى المفتون بأنفسهم عن مثل هذه المسائل التي لا تخدم بشيء، بل قد تسيء إليهم ومثل ذلك أيضا القول إن خطب الجمعة يجب ان يكون محور الحديث فيما مرحلة ما بعد الموت وترك الحديث عن الآخرين وما يقومون به أحيانا من أفعال تنافي الاسلام وتخالفه ولست أدري من أين جاءوا بمثل هذه الاقوال التي لا يقرها عقل ولا شرع وكأن الاسلام محصور في الآخرة فقط اما الدنيا فلها اناس آخرون وكأنهم بهذه الفتوى يفصلون بين الدين والدنيا ويجعلون الاسلام رهبانية على طريقة النصارى وهم يدركون انهم مخطئون وان الاسلام لا يفرق بين الدين والدنيا... أقول أمثال هذه الفتاوى الخاضعة لسلطان السياسة بدأنا نراها في طول العالم الاسلامي وعرضه والسؤال الآن: لمصلحة من يتم مثل هذا العمل؟؟ هل هو لمصلحة الحاكم أم لمصلحة الأمة؟! هل هو لمصلحة هؤلاء المفتين أم لمصلحة الأمة؟أقولها جازما: هذا النوع من الفتاوى ليس لمصلحة احد من هؤلاء بل هو ضد مصالحهم جميعا... من مصلحة الحاكم ان يكون منصب الافتاء محترما ذا هيبة ومكانة في نفوس عموم الناس كي يسمعوا ويطيعوا وتسير الامور بسلامة وسلاسة ولكن عندما يدرك الناس ان هناك اي تأثير للحاكم على الفتاوى فلن يستمعوا إليها ولن يحترموا قائليها وبالتالي أية قيمة ستكون لها؟؟ والاخطر من ذلك كله ان عموم الناس سيتجهون إلى اخذ فتاواهم من اناس آخرين قد لا يكونون مؤهلين للفتوى وهنا مكمن الخطر في حياة الامة... وانظروا ان شئتم في طول العالم الاسلامي وعرضه لتعرفوا تأثير هذه الظاهرة، ستجدونها واضحة في كثرة الجماعات الاسلامية واختلافاتها واحكام بعضها على البعض الآخر وأحكامها على المجتمعات الاسلامية وقيادتها وكيفية التعامل معها لماذا حصل هذا كله في مجتمع مسلم يفترض فيه ان يكون موحد الاتجاهات او قريبا بعضه من البعض الآخر لأنه يدين بدين واحد؟! الإجابة عند المفتين غير الرسميين الذين قادوه إلى مثل هذه التصرفات ولكن متى؟. بعد ان انخفضت هيبة ومكانة المفتين الرسميين فأصبحت كلمتهم غير مسموعة عند معظم الناس. من هنا فإن ابتعاد أصحاب المناصب الدينية عن الوقوع تحت تأثير السلطة أمر في غاية الأهمية وان إدراك أصحاب السلطة لمثل هذه المسألة أمر لابد منه إذا أرادوا للمؤسسات الدينية أن تستمر قوية محترمة وإذا أرادوا لهذه المؤسسات ان تقوي مكانتهم وتقف إلى جانبهم... أعتقد ان منصب المفتي او ما شابهه من المناصب إذا كان لها مسميات اخرى في عالمنا الاسلامي يجب ان يكون بالانتخاب ومن هيئة علمية محايدة يكون لها حق انتخابه وكذلك حق عزله إذا رأت منه ما يستحق ذلك وبهذه الطريقة تعود إلى هذا المنصب مكانته ويعود الناس مرة أخرى إلى الاستماع إلى ما يصدر من صاحبه وأخذه بالقبول والاحترام، فهل يمكن ان يفكر في هذه المسألة بهذه الطريقة أم تترك إلى الظروف؟... لست أدري
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 194 - الثلثاء 18 مارس 2003م الموافق 14 محرم 1424هـ