انجلترا في القرن السادس عشر لم تكن سوى دولة ضعيفة مقارنة مع دول أوروبية أخرى مثل فرنسا واسبانيا آنذاك. غير انها استطاعت اكتساح تلك الدول القوية وتوسيع امبراطوريتها لتصبح أعظم امبراطورية يشهدها التاريخ القريب. انجلترا غزت العالم وكونت امبراطوريتها باستخدام الدهاء والذكاء. بمعنى آخر فإن الانجليز استخدموا جانبي العقل (الأيمن والأيسر) الذي وهبهم الله إياه. انجلترا - لاحقا بريطانيا العظمى (حوالي 1700 م) ثم المملكة المتحدة (حوالي 1800 م) - صعدت في عظمتها حتى وصلت الذروة قرابة العام 1870 م (قمة العهد الفيكتوري)، ثم بدأت تهبط حتى اقتنعت في العام 1956 م (بعد العدوان الثلاثي على مصر) بأنها لم تعد القوة العظمى التي كانت من قبل.
مع هبوط عظمة الامبراطورية البريطانية شهد العالم ـ ومازال يشهد ـ صعود «امبراطورية» أخرى، وهي الولايات المتحدة الأميركية. وربما ان تسمية أميركا بالامبراطورية لا ينطبق والصورة التي تظهرها أميركا لنفسها، لأنها في الأساس دولة قائمة على مبادئ معادية للملكية ومعادية للاستعمار، وخصوصا الاستعمار البريطاني الذي كانت تخضع له. إلا ان الواقع هو ان الهيمنة الأميركية تشبه الامبراطورية البريطانية مع اختلاف في بعض الأساليب.
إذا كانت بريطانيا استطاعت السيطرة على العالم بدهائها وباستخدام الجانبين الايمن والأيسر من عقلها، فإن الولايات المتحدة تسيطر على عالمنا اليوم من خلال أمرين رئيسيين أيضا، ولكنهما ليسا عقليين. فلدى أميركا «فيلم» تعرضه من جانب، و«مسدس» تحمله من جانب آخر. فكل شيء في أميركا خاضع للتمثيل ويتأثر بالأفلام، وحتى أخبار العالم فإنها تعرض وكأنها تمثيل أفلام. الصادرات الأميركية إلى العالم كثيرة، ولكن أهمها وأعظمها أثرا هي الأفلام السينمائية التي يتابعها كل طفل وشاب وامرأة ورجل في العالم وتتم ترجمتها إلى جميع اللغات. وأطفال العالم ـ حاليا ـ يتربون على استخدام لغة واحدة ومفاهيم واحدة يتم تعليبها في «والت ديزني» وغيرها من شركات إنتاج الأفلام،إذ ان أفلام الكارتون مثل «Lion King» وغيرها هي اللغة المشتركة بين الأطفال من مختلف أنحاء العالم، والعبارات والبطولات المعروضة في هذه الأفلام تراها في تصرفات الأطفال في مختلف أنحاء العالم.
«الفيلم» الأميركي و«المسدس» الأميركي هما العاملان المهمان في الامبراطورية الأميركية، وهما البديلان «للعقل» اليمين و«العقل» اليسار (الدهاء) اللذين كانا يستخدمان من قبل الانجليز للسيطرة على العالم. والفرق بين الاثنين واضح وجلي عند مشاهدة قناة CNN و قناة BBC. فالمحطة الأميركية CNN لديها آخر الأخبار التي تعرض بأسلوب درامي (يشبه التمثيل)، بينما ترى أعمق التحليلات تعرضها محطة الـ BBC.
عندما كان «الدهاء» البريطاني يسيطر على العالم كان العرب والمسلمون ضحية لكثير من أساليب ذلك الدهاء الذي انتهى بتقسيم بلادنا العربية والإسلامية إلى دويلات تتصارع، وأقوام وطوائف تتحارب وكأنها نسيت جذورها الحضارية الإسلامية. أما الآن فالعرب والمسلمون هم المستهدفون بصورة أولية من قبل «الفيلم الأميركي» و«المسدس الأميركي».
«الفيلم الأميركي» لم يتوقف عن تحريض الأميركيين والعالم ضد المسلمين والعرب، فقبل سنوات عرضت احدى شركة الأفلام الكبري فيلم «True Lies» (اكذوبات حقيقية) ببطولة أحد الممثلين المحبوبين في أميركا. هذا الفيلم يُظهر مجموعة من العرب الذين يلبسون اللباس الفدائي الفلسطيني بمظهر الارهاب وعدم الإنسانية وعدم التحضر والشر المطلق. ويقوم بطل الفيلم المحبوب بقتلهم بأسلوب يبعث على ارتياح مشاهد الفيلم الذي يصل في ختام ذلك الفيلم إلى نتيجة تجعله يؤيد، بل ومستعد للمشاركة في قتل «الحشرات المرعبة». الشركة ذاتها طرحت فيلما آخر باسم «The Siege» (الحصار) بأسلوب خطير أدى إلى مزيد من الكراهية للمسلمين القاطنين في أميركا، إذ يختلط تصوير المسلم وهو يتوضأ ويتوجه إلى الصلاة باستعداده «الشرير» لقتل وتدمير الأميركيين من داخل أميركا.
ثم جاءت حوادث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 لتحول الأفلام الأميركية إلى حقيقة. فبعد العمل الارهابي في نيويورك وواشنطن استرجعت أميركا أنفاسها وخرجت إلى العالم لتطبق كل ما أنتجته مخيّلة هوليوود والصناعة الحربية المتقدمة في أفغانستان المتخلفة، وبعد أن انتهت من ذلك البلد الفقير توجهت الآن إلى العراق، الذي أصبح فقيرا ومدمرا قبل أن يبدأ الدمار الذي ستديره القوات المركزية الأميركية على نمط أفلام هوليوود.
أما نحن فليس لنا الا الانتظار لمعرفة البلد الذي سيستهدف بعد العراق لكي نشاهد تدميره كما نشاهد الافلام ... هذا طبعا اذا لم يصوب المسدس تجاهنا ويشاهدنا الاخرون ، وكان الله في عوننا جميعا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 194 - الثلثاء 18 مارس 2003م الموافق 14 محرم 1424هـ