واصلت فرقة العروج على صالة مركز السنابس الثقافي عرضها المسرحي «ويش السالفة» على مدى أيام العيد الماضية كما هي عادتها السنوية ففي كل عام يتحفنا مخرجها جابر حسن مع مجموعته الشبابية بعرض مسرحي يصنع من خلاله حضوره وتألقه ويراكم عمله سنة بعد سنة، وتجربة إثر تجربة، فيا ترى ما نصيبه هذا العام من التمسرح.
كما هي العادة في كل عام تعرض مسرحية فرقة العروج لمجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية من تجنس وبطالة وتمييز و.... في شكل «قفشات» سريعة تحاول أن ترصد فيها أثر تلك القضايا على الإنسان البحريني البسيط قانصة من جمهورها الضحكات تارة والتعاطف تارة أخرى، وما هذا التكرار السنوي للقضايا السياسية والاجتماعية نفسها في كل عام إلا دليل على أن تلك القضايا مازالت تراوح مكانها، ولم تجد حلا ناجعا أو يدا صادقة تحاول أن تمسح جراحها حتى اللحظة الراهنة، وما هذا الولع المسرحي بهذه القضايا في كل عام إلا إشارة على أن هذه الفرقة الشابة ومخرجها قد أخذوا على عاتقهم البحث عن التغيير وقول كلمتهم وتسجيل موقفهم ولكن على طريقتهم الخاصة من خلال المسرح بالنقد اللاذع والسخرية المضحكة خارجين من المعركة بأقل الخسائر.
ورغم هذا الولع الشبابي بالمسرح الباحث عن التغيير والمخلص في ملامسة تلك القضايا إلا أن ذلك ما كان ليغمض عيوننا عن هنات ما كان لفرقة العروج أن تتركها تمر وتتكرر دون أن تتنبه لها في العروض القادمة، فهل من المجدي طرح هذه القضايا في كل عام دون تعميقها على مستوى بناء الحكاية أو على المستوى الفني المسرحي تقنيا أو على مستوى الحوار ومحتواه الثقافي الجدلي بما يعكس وجهة النظر ووجهة النظر الأخرى وقوة الحجة بين الأطراف المتحاورة من أجل صنع مضمون متماسك من ثم الخروج برؤية واضحة، ورسالة حية غير قلقة تقول ما تريده، ولا تقول عكس ما تريد كما هو الحال في بعض الأحيان. وتعرض المسرحية لمأساة عامل بسيط مع مدير متنفذ حيث يعمل مهدي شرف في دور «أبو سعود» سائقا لدى المدير المتنفذ حسين الزامل الذي يطلب من «أبوسعود» معلومات عن ابنته التي كانت تطل من النافذة أثنا مرورهما بالطريق فيرمقها المتنفذ حين سقوطه من العربة فيعزم على أن يقدمها زوجة للزعيم تقربا منه وتزلفا له رغما عنها وعن أبيها الإنسان المقهور «أبو سعود».
وإلى هنا تتوقف الحكاية في المسرحية ليبدأ الممثلون في لوك حوار طويل مهجوس بمختلف القضايا من تجنيس وتمييز وبطالة وفساد ومخدرات، وكم كانت الحكاية بحاجة لأن يغذيها المخرج بالأحداث بين فترة وأخرى وسط تلك الحوارات المتعددة القضايا، وهنا يتوه المشاهد عن الحكاية الأصلية والتي لا تكتمل إلا في نهاية المسرحية وبشكل رمزي مدعى أو ملفق، ما يجعلني أزعم أن العرض مازال يحتاج إلى إعادة ربط وبناء بحيث تكون الحكاية متواصلة ليبدو العرض أكثر تماسكا، إذ بعد أن نعرف أن «أبو سعود» هرب رافضا الانصياع للمتنفذ وتزويج ابنته، فجأة يتضح أن هذا الزعيم هو شقيق ابنة «أبو سعود» من الأم التي هربت منه وأنجبت أبناء كثيرين وهم سبب مشاكله ومآسيه وهم قادمون للانتقام منه، وما هؤلاء الأبناء إلا شارون وكوندليزا رايس والزعماء المختلفون والإرهابيون ولا ندري كيف تم الربط بين كل هذا والحكاية الأساسية.
ورغم أنه ببساط شديدة نستطيع الزعم أن المخرج أراد أن يقول ان هؤلاء الزعماء السابقين هم سبب مشاكل هذا المواطن البسيط، وأن المخرج أراد أن يدمج بين الهم الخاص والهم العام على مستوى المحتوى الذي يعكسه التحول المفاجئ في العرض من كوميديا اجتماعية إلى ترجيديا سياسية، إلا أن ثمة إحساسا أن العرض مازال بحاجة للربط أكثر لإثبات هذا الزعم له ولو بخيط رفيع يسمح للنفس أن تتقبل المشهد وتحتضنه وتزعم أن المأساة الصغيرة قادرة أن تتحمل هذه المأساة الكبيرة، ورغم أن الواقع لا يكذب ذلك، إلا أن الأمر على منصة العرض يحتاج للتبرير على لنضمن توالد الحدث ولنضمن أن ينشحن العمل بالكثير من الطاقة الموحية المولدة للحبكة الدرامية المتماسكة ليقول العمل عبرها ما يريد.
وبرغم هذه النقدات العابرة إلا ذلك لا ينسينا أن هناك نقاطا مضيئة في عرض العروج لهذا العام فقد تميز العرض من حيث الديكور الذي اقتصر على مجموعة متعددة من أبواب وجدران البيوت الملونة إذا ساهمت الألوان في تقديم شخوص المسرحية في بيئة فرحة وذلك عبر اختيار الألوان البهية المنعشة التي تعكس بهجة العيد بما يفضي بحسن التوظيف اللوني عبر الانحياز للألوان المخففة بالأبيض من أصفر وأحمر وأخضر،وإن كانت ثمة حاجة لتوظيف تلك الأبواب المتوزعة على المنصة والتي لم نحس بدورها إلا في نهاية المسرحية، وكذلك ظهر تميز عبر توظيف الإضاءة التي لاحقت الممثلين وتابعت تحركاتهم مضيفة الكثير من المعاني المعمقة لحركة الممثل في تأدية دوره، ولكن ذلك لم يستمكن إلا في بعض المشاهد، ومن المتميز كذلك الفواصل الإيقاعية على مستوى الحركة والصوت والمقاطع الموسيقية التي تخللتها وإن كان ثمة حاجة لمراجعة الكلمات المصاحبة معها فثمة محاولة للإضحاك ولكن المعجم التراجيدي «لحمي ودمي» لم يسمح سوى بقطف ابتسامات سريعة، وقد تميّز كذلك المشهد الرمزي الذي بدأت به المسرحية خصوصا مشهد حمل الدمية الصغيرة التي تمثل الطفل أو المرأة في حركات تعكس رفض وإدانة العنف الواقع على الطفل والمرأة.
وتميز كذلك بعض الممثلين وخصوصا عبدالله العالي الذي أظهر صلابة وقوة في تقديم شخصيته وقد راح يدافع عن الدور الذي يقدمه بكل جرأة وكأنه في حوارته يسوق حججا هي من متبنياته وقناعاته الشخصية وليست من متطلبات دوره في المسرحية فقد كان مقنعا وجريئا إلى أبعد الحدود في تقديم شخصية المجنس التركي بائع الشوارما، الذي راح يدافع عما يلصق به من تهم جاهزة وعيوب صارخا «أنا ما ذنبي هم اللي جابوني لهون، أنا بكسب رزقي من عرق جبيني»، وكذل كان مقنعا ومبهجا ومتنوعا حين مثل دور راجو مبينا على قدرته على تأدية أكثر من دور من غير تحسيسنا بالتداخل بين الأدوار. وفي الجنبة الأخرى راح محمد سهوان يواصل تألقه قانصا الضحكات المجلجلة من جمهوره ببهلوانية ظريفة وشقلبات مبهجة وطرقات إيقاعية على جسده متماهيا مع جلجلة الموسيقى الصاخبة، وعبارات تلح عليك بالضحك المتواصل، وذلك في دور جديد له هذا العام هو دور العامل الهندي بابو، وكذلك أضاف لنفسه رصيدا جديدا هذا العام من خلال تمثيله لدور« أبوسكّون» بلهجة متميزة ولكنة واضحة تعكس كبره في السن، وكم كان جميلا تبادل الأدوار بين الممثلين وتبادل اللهجات، وتفاعل الجمهور معهم وهم يؤدون أدوار ولهجات بعضهم البعض بما يحسسك بأنهم يمثلون وهم في غمرة تمثيلهم مجيدين لتقنية التمثيل داخل التمثيل، وكذلك تألق سيد مهدي شرف في دور «أبوسعود» والذي يجعلك تحس أنه لا يمثل أبدا بل يقدم دوره الحقيقي في الحياة بتلقائيته المعهودة وردات فعله البسيطة جدا وصراحته الواضحة وأزعم لو أنه مر في حياته العملية بما يمر به في هذه المسرحية من مواقف تجرّه للطرافة فيمتعنا ما كان ليقول غير ما قاله وكأن الدور مفصل عليه أو هو من تأليفه واختراعه، ولعل تلك الصراحة المعهودة، والتلقائية البسيطة هي مصدر الإضحاك في شخصيته الحقيقية، وفي دوره في المسرحية.
وفي النهاية آن لك أن تتساءل إلام تهدف المسرحية وماذا أراد جابر أن يقول عبر شخوصها فالحكاية يدير حوارها أربعة شخوص الأول والثاني مواطنان بسيطان فقيران معدمان من كل شيء إلا من بقية من الأخلاق، فالأول هرب بسبب القهر كي لايزوج ابنته من الزعيم وعاش هاربا وملاحقا ومتهما بعدم الولاء وكثرة الأسرار والتكتم على ما يريب والثاني مواطن فقير كبير في السن لم يترك الفقر له من خلق فضاع تحت الإغراءات، وفي مقابل هذي المواطنين الفقيرين، في مقابلهما مجنسان ميسوران يعملان وهما مطمئنان في حياتهما، فالأول يعمل لدى الزعيم، ويحوك المآمرات على المواطن الفقير «أبوسعود»، والأخر بائع مقتدر معتز بنفسه وبمهنته، وقد قابلت المسرحية بين هذه الشخوص ففي الوقت الذي ضاعت أخلاق المواطن « أبو سكون» تحت الإغراء والعوز والحاجة واستسلم للمال وبريقه في هذا الزمن الرديء وباع نفسه بالوشاية على أخيه «أبوسعود «، في مقابل ذلك حافظ المواطن الجديد «المجنس» على عزة نفسه ونبل خلقه كإنسان يبحث عن رزقه بعرق جبينه وكد يده بشرف، بل وارتفع صوته بالنقد اللاذع بين فترة وأخرى تحت عبارة «إنتو يالبحرينيين، إنتو يالبحرينيين» فماذا أراد جابر أن يقول عبر هذه الرسالة المزدوجة فالمواطن يخون أمانته والآخر المجنس يحافظ على شرفه، لعله بهذا التضاد المنا قضة للصورة الشعبية النمطية عن المجنس أراد أن ينبهنا إلى موقف أخلاقي يتلخص في أمرين الأول أن ننصف الإنسان كإنسان بغض عن أمور السياسة ودهاليزها وألعابها على الناس، والأمر الآخر أن في هذه الحكاية ثمة نبرة تحذيرية غير مباشرة تنبهنا إلى أن بساطة الإنسان البحريني المسالم وأخلاقه الأصيلة في خطر إذا استمرت الأمور على ما هي عليه من فساد وتمييز وبطالة وتجنيس «فحال الكل في مثل هذه الحال نفسي نفسي أمام هذا الفقر المذقع، خصوصا إذا أحس الناس البسطاء أنهم ملاحقون حتى في أرزاقهم البسيطة».
*كاتب وناقد بحريني
العدد 2239 - الأربعاء 22 أكتوبر 2008م الموافق 21 شوال 1429هـ