التقى أمس رؤساء (دولة وحكومة) اميركا وبريطانيا واسبانيا في جزيرة صغيرة في المحيط الاطلسي وبحثوا سيناريو الحرب أو كما قيل «الفرصة الدبلوماسية الأخيرة». التقى الثلاثة لتقرير مصير «نظام دولي» بدأ يتآكل بسبب نمو قوة عظمى ترى نفسها انها تساوي وحدها (عسكريا) مجموع القوى المنضوية تحت قبة الأمم المتحدة.
التآكل يبدأ من هنا. فحين نرى دولة واحدة قادرة على فعل ما تريده من دون مواجهة حقيقية تصبح كل المؤسسات والمنظمات مجرد عوائق شكلية تتمنى زوالها أو انكفاء دورها حتى تأخذ الحرية الكاملة في التصرف العشوائي الذي لا يضبطه اي رقيب قانوني.
ومشكلة الولايات المتحدة ان المؤسسات التي تتمنى ان تختفي كثيرة. فهناك هيئة الأمم المتحدة وتحديدا مجلس الأمن الذي صدرت منه مقاومة فرنسية - روسية - صينية مدعومة من المانيا وسورية وإلى حد ما باكستان والمكسيك وتشيلي.
إلى الأمم المتحدة هناك الاتحاد الاوروبي الذي ترى فيه الوجه الآخر للممانعة الدولية. ففي اوروبا حصل ما يشبه التمرد السياسي على هيمنة القطب الواحد وبدأت القارة، باستثناء بعض الدول، تثير القلق للوجود الاميركي العسكري وتحديدا في المانيا.
ومن المؤسسات الدولية والاقليمية التي تتمنى الولايات المتحدة زوالها حتى تختفي المراقبة والملاحقة منظمة دول عدم الانحياز التي ترى فيها مجرد بقايا من عصر «الحرب الباردة الاولى» التي أوجبت قيام حركة غير منحازة إلى المعسكرين الرأسمالي أو الاشتراكي. إلى دول عدم الانحياز هناك هيئات اقل قيمة الا ان وجودها ومجرد اجتماعها الدوري بشكل نقطة ازعاج للولايات المتحدة مثل منظمة الوحدة الافريقية وجامعة الدول العربية.
كل هذه الهيئات والمنظمات الدولية والقارية والاقليمية تتمنى الولايات المتحدة ان تختفي قليلا، ولا مانع لديها ان تزول حتى تفرغ الساحة لها وتتصرف كما تريد من دون مناقشة أو محاسبة.
يضاف إلى هذه الهيئات والمؤسسات الكثير من البرلمانات الاوروبية مثل البرلمان الفرنسي، والالماني، والبلجيكي، كذلك الاسباني والبرتغالي والبريطاني. فهذه ايضا منابر مزعجة تصدر عنها بيانات وتصريحات وخطابات تربك حركة «الثور الهائج» وجموحه القاتل نحو السيطرة الكلية.
إلى كل هؤلاء يتمنى ايضا اشرار الحزب الجمهوي الحاكم في البيت الابيض اختفاء الاتحادات العمالية والنسائية ومنظمات حقوق الانسان وجمعيات البيئة (الخضر) ونقابات مختلف القطاعات الفنية والمهنية والحرفية ومؤسسات السينما والتلفزة وبعض الصحف والمراسلين والاذاعات وأصحاب الضمير في عالم الصحافة والاعلام... اضافة إلى كبار الشعراء والفنانين وحملة جوائز نوبل وأوسكار الذين كتبوا ورفعوا الشعارات وساروا في الطرقات واعتصموا واحتجوا وبعضهم ذهب إلى بغداد للتعبير عن التضامن مع الشعب العراقي واحتجاجا على حرب الدمار الشامل.
كل هؤلاء يتمنى جورج بوش، وهو في طريق ذهابه وعودته من القمة الثلاثية، ان يضربوا بقنابل فراغية تنهي وجودهم وتستأصلهم من جذورهم. فهولاء يذكرونه بشعلة الحرية في نيويورك ويفتحون عليه الابواب ويطرحون الاسئلة التي تفضح الجوانب الخفية عن الدوافع الحقيقية لاصرار اشرار البيت الابيض على خوض حربهم الخاصة على رغم انف العالم.
إلى أمنيات بوش هناك أمنيات حليفه البريطاني الذي يسير متثاقلا يجرجر مجموعة كوابح قانونية وسياسية في حزبه الحاكم والبرلمان البريطاني ومعظم النقابات والصحافة والهيئات التي تراقبه وترصد تحركاته وتصرفاته ومعلوماته التي تبين انها غير موثقة واعتمدت على عناصر غير دقيقة.
كذلك حليفه الثاني (الاسباني) يعاني من أوجاع رأس وقلق دائم من استنفار الشارع واستطلاعات الرأي التي اشارت إلى ان 75 في المئة من المجتمع الاسباني يعارض الحرب على العراق.
هؤلاء الثلاثة يريدون بكل بساطة تقرير مصير النظام الدولي ووضعه امام منعطف تاريخي كبير قد يقلب المعادلات ويضع دول العالم في مواجهة تحديات هو غير مستعد لتقبل انعكاساتها السلبية. وهؤلاء ايضا يعتقدون انه عن طريق شراء اصوات دول مجلس الأمن واغراق الدول المترددة (تركيا وباكستان) في الوعود يكسبون جولة تعطيهم فرصة الفوز بالمباراة كلها. ولكن الوعود تشتري الموقف لفترة وليس إلى كل الفترات. والاساس الذي يقوم على لعبة الشر لا يستمر طويلا. فحين يدمر العراق وتستولي الولايات المتحدة على موقعه وثرواته يتوقع ان تنقلب الطاولة، وما قيل اليوم من وعود لن يقال ثانية في الغد. فالايام والوعود تذهب مع ذهابها. فياسر عرفات يعرف ان مصيره غدا اسوأ من اليوم ولن تبقى سلطة فلسطينية حتى تقوم دولة في العام 2005. كذلك يدرك رجب طيب اردوغان ان موقعه الآن سيتبدل بعد ضرب العراق كذلك الامر نفسه سيتكرر مع برويز مشرف في باكستان.
ما يحصل الآن اكبر من العراق. والمعركة هي اختبار للنظام الدولي واختيار اسس جديدة لنظام بديل.
التقى أمس رؤساء اميركا وبريطانيا واسبانيا في جزيرة صغيرة في المحيط الاطلسي فهل ننهض غدا على موعد جديد أم ان العالم اكبر من ان تقرر مصيره قرارات تتخذ في جزيرة صغيرة؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 192 - الأحد 16 مارس 2003م الموافق 12 محرم 1424هـ