التحديات التي تواجهها بلادنا كثيرة، وقد بدأنا بمعالجة بعضها، ولكن اختلاف الأولويات بين الأطراف المختلفة ربما يعطل الحلول. والاختلاف في الأولويات يتبعه توزيع الجهود داخل الدولة والمجتمع الى مشروعات عدة لا تؤدي في النهاية إلى حلول بعيدة المدى.
بدأنا قبل عامين بمعالجة الملف الأمني وتمت معالجته والتخلص من أكثر مشكلاته، وما بقي من ذلك الملف لم يعد عقبة كبيرة ولا يمكن ان يوقف عجلة الإصلاح. ولكننا مازلنا لم نحدد جوهر الطرح الإصلاحي وجوهر الاجراءات المطلوبة، ولذلك ضاع البعض في معالجة ظواهر الأزمة وآثارها، مثل البطالة، بينما المطلوب هو معالجة الجذور.
يشير عدد من الاداريين في البلاد إلى ان مشكلتنا هي تحديد الاستراتيجية الوطنية وماذا نريد للبحرين خلال عشر السنوات وعشرين السنة المقبلة. وإلى حد الآن ليست لدينا خطة واضحة تطرح على المستوى العام بحيث يسترشد بها الجميع، كل في موقعه. وما لم نحدد هذه الوجهة الاستراتيجية فاننا سنراوح مكاننا.
فالذي لا يدري اين سيذهب عندما يسوق سيارته، فانه ينتهي الى ضياع وقته وجهده من دون ان يصل إلى مكان يعرفه او كان قد حدده هدفا له.
وبعد ان نحدد الاستراتيجية وندرجها ضمن برامجنا التعليمية والتدريبية والاستثمارية فانه يجب علينا ان نواجه «الآفة» التي تقضي على أية خطة، سواء كانت خطة جيدة او غير جيدة، وتلك هي آفة الفساد الاداري والتلاعب بالمال العام وتنفيذ القرارات على أساس المحسوبية والمنسوبية وعلى اساس خدمة المصالح الخاصة للشخص الذي ينفذ الخطة.
الادارة غير الحسنة تقضي على كل خطة وعلى كل طموح و«تبتلع» الأخضر واليابس، تماما كما هو الحال مع «الثقوب السوداء» في الفضاء الخارجي. فتلك الثقوب السوداء تبتلع اي شيء يمر امامها ويختفي ذلك الشيء إلى ما لا نهاية له، بحيث لا يعرف إلى اين اختفى ذلك الشيء الذي تم ابتلاعه.
«الثقوب السوداء» اذا وجدت في الادارة العامة فانها تقضي على اي شيء يقع في يدها ويتحول «الخير الوفير» إلى «فقر مدقع» بسببها. وما لم يتوجه الجميع إلى القضاء على هذه «الثقوب» فاننا لن ينفعنا تحديد الاستراتيجية أو عدمه. وهذا هو فعلا ما حدث في بلد مثل سنغافورة التي يكثر الحديث عنها في اوساط كثيرة باعتبارها أنموذجا جيدا للتنمية الاقتصادية. فالتنمية الاقتصادية في سنغافورة لم تكن ستحدث لو لم تكن لدى سنغافورة خطة استراتيجية واضحة في اذهانهم جميعا، ولم تكن ستتحقق لو سمح للادارة العامة ان تترهل ويصيبها الخلل من دون اجراءات حاسمة.
لقد شاهدنا كيف تحسن الوضع عندما بدأت بعض الاجهزة الحكومية تنفيذ جزء من الشفافية المطلوبة بشأن المناقصات ومشروعات الدولة، ولذلك فان المطلوب الان هو المزيد من الشفافية والعدالة في تحديد من ولماذا يسلم هذا الشخص او تلك الشركة مشروعا تنمويا معينا؟ وبهذا الاسلوب يمكن للبحرين ان تستفيد من رؤوس الاموال المحلية قبل ان تتوجه إلى رؤوس الاموال الخارجية. فرأس المال لا يذهب إلى مكان إلا اذا اطمأن إلى أن هناك أمنا وعدالة واستقرارا وشفافية. وحتى لو حاولنا اخفاء بعض الامور فان اصحاب الاموال يلجأون دائما إلى الاختصاصيين الذين يوفرون لهم خدمات استشارية توضح لهم كل ما يريدون معرفته عن بلد معين او سوق معينة.
وهذا الامر ينطبق على كل شيء، من المشروعات الصغيرة إلى الصناعات الضخمة. فلدينا في البحرين صناعة الالمنيوم المتطورة، هذه الصناعة وضعت امامها استراتيجية للتوسع وطلب قروض من اجل ذلك. وعلى رغم نجاح هذه الصناعة فان عملية الاستثمار في التوسعة واجهت اسئلة كثيرة من مختلف الاطراف. وهذا يدل على ما نود الاشارة إليه، وهو ان المستثمر لا يكتفي فقط بما يقرأه في الصحافة او يسمعه من الرسميين، بل يسعى دائما إلى المساءلة والتشكيك قبل ان يستثمر امواله. واذا كان الحديث عن صناعة ناجحة يواجه اسئلة مباشرة واستفسارات فكيف هو الحال مع المشروعات الاخرى التي تتطلب رؤوس اموال محلية وأجنبية؟ كيف سنقنع المستثمر بأن يستثمر في السياحة البيئية او السياحة الصحية او السياحة العائلية او السياحة الأثرية؟
ما الصناعات التي نود انشاءها وتطويرها في البحرين؟ هل نود تطوير صناعة الاعلام والصحافة؟ هل نود تطوير صناعة تقنية المعلومات؟ هل نود تطوير الصناعات الخفيفة وشبه الثقيلة التي تستوعب ايدي عاملة وماهرة كثيرة؟
هل اعددنا الخطط التنفيذية لتلك الرؤى؟ هل لدينا دعم حكومي لتدريب الطاقات البشرية؟ هل هناك مؤشرات نعتمدها بصورة وطنية مستقلة تقول لنا اذا كنا قد تقدمنا تجاه الهدف ام اننا نتأخر؟
هل هناك تشريعات معتدلة وعادلة وعقلانية؟
تلك الاسئلة واسئلة اخرى يطرحها الاختصاصيون لا يمكن غض الطرف عنها، واية محاولة لتجاهلها انما تؤخر الحركة الاصلاحية.
اننا بحاجة إلى ان نصارح انفسنا ونطرح الاستفسارات ونجيب عليها وبذلك نعزز الثقة لمزيد من الاستثمار. فكثير من الارقام التي يطرحها عدد من الوزراء هي اقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، ولكي يتحقق جزء من ذلك الخيال فان على هذا الوزير او ذلك المدير ان يسعى إلى الاجابة على بعض الاسئلة المطروحة من القطاع الخاص ومن المستثمرين الاجانب.
البحرين لديها ما لا يتوافر لعدد من البلدان المجاورة، فلديها الامكانات البشرية المحلية وهذه الامكانات البشرية بحاجة إلى من يحسن تطويرها وادارتها بصورة فاعلة وعادلة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 192 - الأحد 16 مارس 2003م الموافق 12 محرم 1424هـ